هل صحيح؟!

TT

هل صحيح أنه (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان)؟!

يفترض هذا، ولكنني للأسف لم أفعل هذا مع شخص أحسن لي يوما، وعقدت العزم صادقا أن أرد له ذلك الإحسان، غير أن ملاهي الدنيا (الله يقطعها) قد شغلتني، وكنت أؤجل رد ذلك الإحسان عاما بعد عام إلى أن نسيت ذلك الرجل نهائيا، ولم أتذكره إلاّ بعد أن قرأت نعيه قبل أيام في إحدى الصحف، فولّد ذلك القصور من قبلي أسفا عميقا في نفسي، وإنني عاقد العزم إن شاء الله على رد إحسان ذلك الرجل في أبنائه، إن لم يكن هذا العام تحديدا ففي العام المقبل، هذا إذا تهيأت الظروف وأمد الله في عمري ولم يطاردني داء النسيان اللعين.

وما أبعد الفرق بيني وبين ذلك الرجل الكوري الجنوبي الذي يقال له: (بيك سانغ)، وهو كان في سنة 1952، مجرد مشرد من مائة ألف يتيم يهيمون على وجوههم ويقتاتون من المزابل جراء ويلات الحرب الطاحنة، وقد ساعدته الظروف أن يعمل في كتيبة للجنود الأميركيين في غسل الملابس وتنظيف المراحيض لقاء وجبة واحدة في اليوم من بقايا ما يأكله الجنود.

وكان هناك جندي يقال له (بلي)، كان هو الوحيد الذي لم يضربه أو يشتمه، بل إنه كان يعطف عليه ويعامله كما لو أنه أخ صغير له.

وذات يوم سقطت على تلك الكتيبة قذيفة على برميل وقود اشتعلت من جرائها النار في ثياب (سانغ) فرمى بنفسه في النهر ليطفئها، فجرفه تيار النهر، ولم يتحرك أحد لإنقاذه سوى (بلي) الذي وثب غاطسا في الماء وبعد جهد جهيد كاد أن يغرق معه، استطاع أن ينقذه، وذهب به إلى مركز الإسعاف وهو بين الحياة والموت، وبعدها قرر قائد الكتيبة الاستغناء عنه لأنه غير صالح للعمل.

وظل (بلي) يتواصل معه إلى أن شفي تماما، وذهب إلى العاصمة (سيول)، واستطاع أن يجد له عملا في أحد مصانع القبعات ليكون بوابا، وفي نفس الوقت كان يعمل مع العاملين بدون أي أجر، وبعد أن بلغ الثامنة عشرة من عمره، وتأكد أنه أتقن الصنعة، استقال من عمله، واستأجر له مخزنا صغيرا، كان يدفع ثمن إيجاره عينيّا من القبعات بدلا من النقود، وكان يعمل في صنع القبعات كل مساء إلى منتصف الليل، ويقصد السوق فجرا لشراء المواد اللازمة، وأخذت تجارته تنمو وتنمو وتنمو.

لا أريد أن أطيل فقد أصبح اليوم من أثرياء كوريا، لديه أكثر من (9800) موظف يعملون في تسعة وعشرين مصنعا في سبع دول بينها أميركا، وأرباحه السنوية تقدر بمئات الملايين من الدولارات.

ليس في كل ما قلته من كلام إلى الآن أية أهمية، (فبيت القصيد) الذي أريد أن أصل إليه، هو ما فعله السيد (سانغ) فيما بعد، لقد أتعب نفسه طوال سنوات في البحث عن ذلك الجندي الذي يقال له (بلي) وهو الذي أحسن له وأنقذه، إلى درجة أنه نشر إعلانات في الصحف والمجلات، وعرض مكافأة سخية لمن يدله على الجندي الذي كان في الكتيبة الفلانية في كوريا ويحمل رقم (RA 3283670)، والمشكلة أن (سانغ) لضعفه في الإنجليزية خلط بين (بلي) و(بتي)، ووصله أكثر من 300 رد من أشخاص كل منهم يزعم أنه هو.

وقد استعان أخيرا بـ(إف بي آي)، وعندما اتصلوا به وقالوا إنهم عثروا عليه، ركب (سانغ) طائرته الخاصة، وتوجه إلى أميركا لمقابلة (بلي) وذلك بعد أكثر من خمسين عاما، وإذا بـ(بلي) بعد أن ترك الجيش، اشتغل فترة بمخبز كعامل، ثم أصبح حارسا ليليا في ملهى فلادلفيا.

فما كان من الملياردير (سانغ) إلاّ أن يشيّد قرية كاملة لإيواء الأيتام والمشردين بلغت كلفتها أكثر من خمسين مليون دولار، أطلق عليها اسم (بلي)، وجعله هو مديرا لها براتب مقطوع مقداره مليون دولار سنويا.