البيتلز والسلام وديناصورات التكنولوجيا

TT

في مسرحية تاجر البندقية يقول شاعر الإنجليز العظيم وليام شكسبير (على لسان شخصية لورينزو) «إن الرجل الذي تخلو روحه من الموسيقى لا يستحق أن تمنحه ثقتك». تذكرت البيت في عطلة نهاية الأسبوع الماضي أثناء متابعتي الحلقات التسجيلية في الـ«بي.بي.سي» بمناسبة الذكرى الأربعين لانفراط عقد فرقة موسيقى البيتلز (وعرفتها الصحافة العربية آنذاك سلبيا بالخنافس لأسباب سياسية لا موسيقية)، والتي لا تزال أشهر فرقة موسيقى شعبية عالمية، حيث طورت الموسيقى pop الشعبية لتوجه مزاج العالم سلميا لثلاثة أجيال وأطربت الملايين منذ ظهور المراهقين الأربعة بول ماكارتني، ورينغو ستار، وجورج هاريس وجون لينون، قبل نصف قرن، بدليل اكتساح ألبوم الأعمال الكاملة للفرقة سوق مبيعات الموسيقى هذا الأسبوع رغم أن ثمنه يقارب 410 دولارات.

ظهر الأربعة ـ وهم مثلي، مواليد الحرب العالمية الثانية ـ في ليفربول، الفقيرة اقتصاديا (في أول عرض لهم أمام متعهد الحفلات، لم يمتلكوا ثمن حامل الميكروفون فثبتوه إلى عصا مكنسة سرقها أحدهم من مطبخ أمه).

وكانت البلدة غنية بتراثها المتعدد الثقافات (بني فيها أول مسجد في بريطانيا).

خرجت منها سفن التجارة إلى أنحاء العالم (الإمبراطورية البريطانية بنيت على التجارة). لتعود بمختلف المنتجات والأعراق. ولا تزال أهم ثغر للتجارة مع الأمريكتين.

ولعبت علاقة وليام وليبرفورس (1759 ـ 1833) بليفربول دورها في حملته لتجريم تجارة العبيد، بإقناع مجلس العموم بإصدار قانون إلزام البحرية الملكية باعتراض سفن تجار الرقيق وتحرير بضاعتهم الآدمية.

بهذا الإرث العالمي، والوعي الإنجليزي بتضحيات الحرب العالمية، انطلقت موسيقى البيتلز من ليفربول لتحول الموسيقى الشعبية من صيحات ألفيس بريسلي (1935 ـ 1953) في الخمسينات إلى موسيقى راقية حركت العواطف في بلدان لا تنطق الإنجليزية عندما طافوا بها في الستينات.

توقفت رحلة قطار ذاكرتي عند أغنية كانت الأولى في المبيعات عام 1962 ويغمى على المراهقات عند سماعها، بسبب دفء الموسيقى مع حيوية إيقاع متدفق بكلمات تثير بساطتها الشجون: «أريد أن أهمس في أذنك؛ آملا أن تفهميني؛ أريد أن أمسك يدك».

أخذت الاسطوانة، مع أخريات، من لندن إلى الإسكندرية فتهافت على اقتراضها كل من امتلك جهاز تسجيل؛ كان وقتها في حجم حقيبة السفر وشريط ممغنط ببكرتين في حجم عجلة القيادة، من صنع بلدان المعسكر السوفييتي التي قصر الكولونيل جمال عبد الناصر الاستيراد عليها.

تحولت اسطوانة «أريد أن أمسك يدك» إلى مطلب الجميع في الحفلات الاجتماعية، أو الراقصة، مساء كل سبت، في جامعة الإسكندرية التي لم تختلف وقتها عن مثيلاتها الأوروبية؛ فلا يذكر أحد رؤية حجاب واحد في حرم الجامعة، التي لم يمنع فيها كتاب أو مجلة أو حفل راقص أو أغنية بحجة حماية المجتمع والأخلاق.

كان نظام الكولونيل ناصر وقتها، رسميا، في حرب باردة مع بريطانيا وفرنسا كهدف لسباب بروباغندا الزعيم الأوحد بصوت أحمد سعيد وشركاه؛ فحرم استيراد أي شيء إنجليزي وأغلق المعهد البريطاني (المجلس البريطاني فيما بعد) بالشمع الأحمر. واعتبرت أغلبية الطلاب الإنجليز أعداء الله والوطن، بجهود الصاغ كمال الدين حسين الذي تولى وزارة المعارف عام 1958 وأمطر التلاميذ بوابل من التاريخ المزيف صوّر السوفييت كملائكة والإنجليز كشياطين.

المفارقة أنه رغم الجو المشحون بالعداء للإنجليز، كان للبيتلز شعبية هائلة بين شباب الجامعات المصرية (لمعرفتهم الإنجليزية)، عبر الـ«بي.بي.سي» والاسطوانات التي يحضرها العائدون من دراسات عليا من بريطانيا.

اخترقت الموسيقى جدار كراهية بروباغندا حكومة العسكر ونظامهم التجهيلي (عكس التعليمي) وتخطت الغمامة على العقول لتصل القلوب.

وإحدى أهم عبقريات فن البيتلز كان تأليف الألحان والكلمات للسلام والحب؛ وكثيرا ما وصف المؤرخون البيتلز بأنهم الوجه الفني الشعبي لحركة السلام ونزع السلاح النووي (كانت بدأت في بريطانيا 1960) وللآمال السياسية التي بثها الرئيس جون ف كنيدي (1917 ـ 1962).

انتشلني قبح الحاضر من ابتسامات حلم الذكريات على واقع لا يسرّ، ليس لاكتشافي أنني والسير بول ماكرتني نطرق أبواب الكهولة بعد مسيرة طريق الشيخوخة معا، وإنما لأنني أصبحت ديناصورا في تكنولوجيا الاستماع للموسيقى.

فالحنين لزمن الستينات الجميل دفعني لغرفة «الكراكيب» – التي تلقي فيها الهانم بكتبي أو تدفن فيها ما أضاعت مكسبي لأشهر في موضات غيرت رأيها فيها بعد شرائها، أو بعد مكالمة مطولة مع أمها ـ لأنفض تراب السنين عن اسطوانات البيتلز.

سمعت نفسي مقلدا المرحوم يوسف بك وهبي «ياللهول»، في غرفة الجلوس حاملا ثروة التراث الثقافي. فلا يوجد أي جهاز في بيتنا لسماع هذه الروائع.

ومثل الصعيدي الذي باعوه الترام في الإسكندرية لمحت «توب بوكس» وشاشة البلازما، و«دي في دي» وال «آي بود» وال «إي 4» وعشرات من الأسلاك والريموت كونترولات والسماعات الضخمة، وليس بين أجهزة القرن 21 غرامافون الاسطوانات.

أفقت من السكتة الثقافية والصغار يحملقون في عجوز استغرق في العمل حتى انقصم ظهره، ولهم العذر فلم يشهدوه يرفه عن نفسه بسماع الاسطوانات على الغرامافون. فشلت في معرفة مصير الجهاز. فالشباب لم يسمع بالجهاز الديناصوري وأقسمت الهانم، باستعباط حوائي، بجهلها بـ«الماكينة» التي سمعت بها من جدها.

الابنة الكبرى اقترحت أن شبكة «يو تيوب» عليها كل شيء مثل البيتلز وأم كلثوم. ومقابل رشوة معتبرة، فتحت المدموزيل الموقع في ثوان وألبستني سماعات «هيدفونز» وكأنني في كوارنتينا (الحجر) السمعي لحماية أذنيها العصريتين من عدوى عصر الغرامافون.

بعد ساعتين من الاستماع للبيتلز عثرت على موقع مغن آخر (لن أفصح عن اسمه) من العصر نفسه، موسيقاه حزينة لكنها دافئة، وكلمات الأغاني ثرية بالخيالات والتشبيهات الشعرية.

وربطت أغنية لها ذكريات عميقة معي بموقع الفيس بوك الخاص بي، وقصدي الوحيد إطراب أسماع العواجيز ممن فقدوا الغرامافون لقسوة الحياة الزوجية.

فوجئت بصديق، ليس فلسطيني الجنسية، يكتب على جدار الفيس بوك (أي تعليقا على موقعك تراه الدنيا كلها) شجبا لذوقي الموسيقي «كيف تختار أغنية لموسيقي صهيوني موالٍ لإسرائيل؟»، فأشعل سلسلة من الجدل المتبادل مع صديقة أميركية.

وبعد سبعة تبادلات بينهما تدخلت قائلا «أنا أطرب لموسيقى الرجل ولا فرصة لترشيحه لمنصب دبلوماسي».

في عصر الغرامافون والأجهزة الديناصورية سبقت القلوب المحبة للسلام التكنولوجيا لتخترق جدار الصراعات السياسة نحو الحب.. وفي عصر الاتصالات والإلكترونيات الباهظة التكاليف تخلفت القلوب والعقول لتبقى في سجن الصراعات وكراهية الآخر..

ورحمة الله على الزمن الفقير الجميل.