أولوية (هدم السند الأعظم) للإرهابيين

TT

أشخاص يعانون أوجاعا غير خطرة، يذهبون إلى المستشفيات فإذا بهم يزدادون مرضا. فمنهم من يصاب بإعاقة وبيلة، ومنهم من يموت.. ما السبب؟.. السبب هو (سوء التشخيص).

ننقل هذا المثل إلى معضلة الإرهاب فنقول: إن ظاهرة الإرهاب تتسع وتتعقد وتزداد حدة وإجراما على الرغم من أطنان الكلام الذي يبث في الإعلام عن هذه الظاهرة.. ما سبب هذه المفارقات الحادة؟.. السبب هو (سوء التشخيص)، أو عدم الغوص وراء (الأسباب الحقيقية) لظاهرة الإرهاب: فكرا ووقائع إرهابية.

فكما أن دقة تشخيص الأمراض البدنية شرط علمي طبي في صحة علاج هذه الأمراض، فإن التعرف المنهجي الموضوعي على أسباب الإرهاب: شرط ضروري في خطط مكافحته.

يلحظ: أن الجهود الفكرية ذاتها تتورط فيما يمكن تسميته (النظرة العوراء) إلى هذه القضية.. ومن طبيعة العور أن تكون رؤيته ناقصة ـ إلى النصف ـ في النظر إلى الأشياء، والتعامل معها.. مثلا: هناك من يرد الإرهاب إلى (عوامل ذاتية بحتة)، ويصر على نفي كل عامل أو مؤثر خارجي.. وكأن نموذج صدام حسين قد غاب عن الوعي والتفكير. فالرجل متلبس بعوامل ذاتية قاتلة مثل: الطموح المَرَضي.. وسوء الحسابات، واللعب الاستراتيجي وفق عقلية ربما كانت تصلح في غير ظروفه التاريخية.. هذا كله صحيح.. وصحيح مثله: أن قوى خارجية استغلت ذلك كله ووظفته في تحطيم العراق: ابتغاء تحقيق أهداف معينة: أميركية أو أوروبية أو صهيونية، أو مشتركة.. وهناك من يمشي عكس هذا الاتجاه، أي يرد ظاهرة الإرهاب إلى (عوامل خارجية بحتة): مبرئا المسلمين ـ بإطلاق ـ من تهمة الإرهاب وجرائمه.. ومن العوامل الخارجية ـ عند هذا الفريق ـ: ظلم (الآخر) للمسلمين، سواء كان هذا الآخر: الحركة الصهيونية واحتلالها لأرض الفلسطينيين وبطشها بهم، أو كان (الآخر) هو الغرب الذي يدعم الظلم الصهيوني، بل لا يزال يغزو بلدانا إسلامية ويحتلها.. ومع أننا لا نقلل ـ قط ـ من خطورة هذه العوامل من حيث هي استفزاز وتهييج وتحريض على الغضب العام، فإننا نعدّها بمثابة (تغذية) للعنف، لا أسبابا رئيسية له.. وهذه استدارة كبيرة بمنهج الجدل والمناقشة: تتطلب حجة في حجمها.. وهذه هي الحجة: إن الغلو والعنف (مرض فكري ونفسي) يمكن أن يظهر في أي بيئة، ويمكن أن يتغلغل في الأشخاص ضعيفي أو عديمي (المناعة) ـ الطبيعية أو المكتسبة ـ وإنما فقدوا المناعة ـ بنوعيها ـ بسبب الفهم المغلوط للدين: في الاعتقاد والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. مثال ذلك: أن البيئة النبوية ـ في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ هي أطهر وأصلح وأعدل بيئة اجتماعية شهدها كوكب الأرض، ومع ذلك فإن النبتة الأولى للخوارج ظهرت في هذه البيئة الطاهرة الصالحة العادلة، وذلك حين اتهم رجلٌ جلف يكنى بـ(ذو الخويصرة): اتهم النبي بعدم العدل، فقال: «اعدل فإنك لم تعدل»!!!!!!!.. ولذا تنبأ النبي بأن ذا الخويصرة هذا هو نبتة الخوارج وجرثومتهم ومنشأ غلوهم ومروقهم.

كان موضوع الأسبوع الماضي ـ وعنوانه ـ هو (فتح العين على البعد السياسي في جرائم الإرهاب)، أي على العوامل الخارجية التي تستغل (طاقة تدميرية هائلة في ذوات المسلمين) وتوظفها في ما تريد من أهداف وأغراض.. ولأجل التوازن المنهجي والمعرفي والموضوعي: تركز هذا المقال ـ الذي بين أيديكم ـ على (سبب ذاتي) ضخم للإرهاب وهو سبب (الجموح إلى التكفير).

إن الجريمة الإرهابية في استحلال الدماء المعصومة مسبوقة ـ بالضرورة ـ بفكر تكفيري: يكفّر الضحية قبل أن يحاول قتلها أو اغتيالها.

فـ(التكفير) ـ من ثم ـ هو السند الأعظم في الأعمال الإرهابية.

ويتوجب ـ من ثم ـ (الصدع بالحق) في هذه القضية: صدعا لا يجوز ـ قط ـ أن يتقدمه الانشغال بالفتاوى الجزئية، أو يزاحمه ما هو دونه من الواجبات والأولويات. فالإيمان بالله ـ جل ثناؤه ـ، والفقه السديد في دينه يقضيان بالتقديم المطلق لمسألة عصمة المسلم من التكفير، وعصمة دمه من الاستباحة.

إن من مقاصد الإسلام العظمى، ومن عزائمه المتجددة التي لا تنقطع ولا تركد: إدخال الناس فيه، لا إخراجهم منه!

فالإسلام (منهج جذب) لا (منهج طرد) وهما منهجان نقيضان لا يلتقيان.

فمنهج الجذب يقضي بالدخول في دائرة الإيمان، في حين يقضي منهج الطرد بالدفع إلى دائرة الكفران. وليس يلتقي إيمان وكفران.

ومن هنا، فإن أعظم حبور، وأجمل فرحة وأمتعها: الفرحة بدخول الناس في الإسلام، وبقائهم عليه بالتالي.

بعث النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عليا بن أبي طالب فاتحا، فقال علي: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال النبي: «انفذ على رسلك وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم».

يقول الحافظ بن حجر ـ في شرح هذا الحديث ـ: «يؤخذ منه: أن تألف الكافر حتى يسلم أولى من قتله».

وقد لحظ البخاري المعنى اللطيف الرحيم العميق للحديث فاختار له عنوانا دقيقا مناسبا جدا ـ في موضع آخر ـ وهو (باب فضل من أسلم على يديه رجل).. والدلالة المبتغاة ـ هاهنا ـ هي: أن الفرحة بهداية إنسان إلى الإسلام: أمتع وأروح وأعظم وأندى وأحلى من مباهج الدنيا جميعا.. يعضد هذه الدلالة: مفهوم الأمر بالتسبيح في سورة النصر: «إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا».. فمن مفاهيم هذا الأمر بالتسبيح ـ عند دخول الناس أفواجا في دين الإسلام ـ: أن المسلم يمتلئ غبطة وفرحا وتهللا واستبشارا حين يدخل الناس في الإسلام، وأن هذا الشعور الغامر بالفرحة العميقة يقتضي شكر الله، وأن التسبيح: شكر من الشكر.

ثم إن الفرحة بدخول الناس في الإسلام، وببقائهم ـ بداهة ـ في دائرته: معللة بحب الخير والسعادة والهناءة والراحة والنور للبشرية: «الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد».. وبهذا المفهوم، وفي ضوئه: يُدعى الناس إلى الإسلام ابتداء، ويُثَبَّتون عليه: تبعا ودوما.. وفي ضوء هذا المفهوم الأساسي أو الأصل: انبعث حملة الخير والرحمة والنور، وانطلقوا من جزيرة العرب، لهداية الناس إلى الإسلام: بالحجة والإقناع بالحسنى، وبمحبة الخير والسعادة لهم.

وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، منهج لا يسمح قط بإخراج الناس من النور إلى الظلمات، أي لا يسمح بالجموح إلى تكفير المسلمين. ذلك أن المقصد الثاني: نقض للمقصد الأول.

لماذا هذا المنهج الصارم في الكف عن تكفير المسلمين:

1. لأن الكفر هو أبغض شيء إلى المسلم: «وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان».

2. لأن الغلو في التكفير: افتراء على الله ورسوله، وظلم بواح لمن يوجه إليه التكفير.

3. لأن التكفير فتنة للناس في دينهم. وهذه هي الفتنة الأشد من القتل.

4. لأن التكفير (تقنيط) للناس من رحمة الله الواسعة، بل تشجيع لهم على الكفر. بمعنى أن الذي يوجه إليه التكفير، قد يؤزه الشيطان ويقول له: ما داموا قد كفّروك فكن كافرا حقيقيا!! وربما زين له ذلك بالمقولة اليائسة (أنا الغريق فما خوفي من البلل).

5. لأن التكفير ذريعة إلى إهدار الدم المصون المعصوم، في حين أن من مقاصد الإسلام الثابتة أبدا: صيانة النفوس من هدر دمها.

يقول ابن تيمية: «ليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط.. ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة.. ويقول علماء السلف في المقومات الاعتقادية: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل. وقد ثبت الزنا والسرقة وشرب الخمر على أناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. بل جُلد هذا، وقُطع هذا، وهو في ذلك يستغفر لهم ويقول: لا تكونوا أعوان الشيطان على أخيكم.. وأحكام الإسلام كلها مرتبة على هذا الأصل.. ومن شأن أهل البدع: أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، ويُكَفِّرون من خالفهم فيها، ويستحلون دمه.. وأهل السنة لا يبتدعون قولا، ولا يُكَفِّرون من اجتهد فأخطأ».

إننا ندعو إلى إحياء المنهج المانع من (التكفير).. ندعو إلى حملة فكرية علمية شرعية شاملة وطويلة الأمد: تتحرى حراسة عقائد الناس وإيمانهم وإسلامهم من بدعة التكفير: «إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير».

وليعلم ـ الخاصة والعامة ـ: أن (التكفير) هو السند الأعظم الذي يستند إليه الإرهابيون الذين يستحلون الدماء المعصومة بعد تكفير أصحابها.

وبإحياء منهج منع فوضى التكفير، ينهدم السند الأعظم لهؤلاء الإرهابيين المفسدين في الأرض.