حدود القوة

TT

عندما جلست أشاهد في إحدى الليالي فيلم «دير هانتر»، تذكرت حينها السبب في أنني لم أشاهد أفلاما تتناول حرب فيتنام منذ سنوات عديدة.

فقد أثار الفيلم بداخلي ذكريات تلك المأساة والضحايا الأبرياء. وتذكرت أيضا أننا نادرا ما نميل في واشنطن لأن نرى السياسة الخارجية في صورة مجردة، غير مدركين لما نجره على دولتنا من تعقيدات ونتائج مساعيها. ربما يكون الدخول في حرب أمرا هينا لكن الأصعب هو الخروج منها، فقد استمرت الحرب في فيتنام عشر سنوات ونحن الآن قد صرنا على أعتاب السنة التاسعة من الحرب في أفغانستان، كما ناهز وجودنا في العراق السبع سنوات ولم تنته أي منهما بعد.

عندما دخلت مجلس الشيوخ عام 1997 كان العالم يعاد تعريفه على أساس أنه ما من دولة قادرة على السيطرة والفهم بمفردها. وقد أدى تفكك الاتحاد السوفياتي إلى ظهور تأثيرات ومراكز قوى عالمية جديدة، إضافة إلى بروز تهديدات جديدة أيضا. وقد نبهت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الولايات المتحدة إلى هذه الحقيقة، فأشارت اللجنة المكلفة بالتحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) إلى أن تلك الهجمات أبرزت القصور في استخباراتنا ونظامنا الأمني بقدر ما أبرزت نجاح الإرهابيين.

كان الرد الأميركي على تلك الهجمات ـ بالدخول في حربين ـ رد القرن العشرين على حقائق القرن الحادي والعشرين. وقد كلفت تلك الحروب الولايات المتحدة ما يزيد على 5100 شخص وأكثر من 35000 جريح. وأنفق فيها تريليون دولار إلى جانب المليارات التي تنفقها الخزانة كل شهر. وقد نسينا كل الدروس التي تعلمناها من حرب فيتنام والتاريخ السابق.

لم يعد بمقدور أي دولة الآن أن تفرض إرادتها وقيمها على الدول الأخرى. ونظرا لتشكل نظام عالمي جديد يجب أن تقود الولايات المتحدة عبر بناء تحالف من المصالح المشتركة كما فعلنا في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث أرست منظمات دولية مثل الأمم المتحدة والناتو والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية (غات) قواعد لسلوك وتوقعات الأفراد والحكومات أسهمت في منع العالم من الانزلاق إلى حرب عالمية ثالثة وجعلت العالم مكانا أفضل بالنسبة لغالبية سكان العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

إن التهديدات الكبرى التي نواجهها الآن تأتي من الأقاليم التي خلفناها وراءنا بعد الحرب العالمية الثانية، وسوف يتطلب التعامل مع هذه التهديدات سياسة خارجية تعتمد على الحوار، أو بعبارة أخرى سياسة نشطة لا سياسة استرضاء. إننا بحاجة إلى استراتيجية واضحة ومحددة تضع في اعتبارها الترابط والمصالح المشتركة لكل الدول. وكل تهديد كبير للولايات المتحدة سواء كان اقتصاديا أو إرهابيا أو انتشار أسلحة الدمار الشامل أو الأمراض الوبائية أو التدهور البيئي أو الطاقة أو نقص الماء والغذاء فإنها تهدد في الوقت ذاته شركاءنا ومنافسينا على مستوى العالم. وبالتالي لا يمكننا أن نرى تدخلنا في العراق عبر عدسة ترى «الرابح» و«الخاسر» فقط. فالعراق وأفغانستان ليسا المكانين اللذين يمكن أن تربح فيهما الولايات المتحدة أو تخسر. فبماذا ستفوز؟ إن بمقدورنا أن نساعدهم على الحصول على المزيد من الوقت من أجل التطوير، لكننا لن نستطيع التحكم في مصائرهم. وهناك أيضا العديد من الديناميكيات الدينية والاقتصادية والثقافية القائمة في هذه الأقاليم والتي تحول دون تمكن أي دولة من إحكام سيطرتها عليها. فمستقبل أفغانستان، على سبيل المثال، مرتبط بصورة مباشرة بباكستان وما يحدث في الجبال على الشريط الحدودي. وسوف تعمل التهيئة السياسية والمصالحة على تقرير النتائج.

إن بقاء الجيوش الكبرى عالقة في مناطق خطرة ومعقدة تاريخيا ينتهي بكارثة، ففي فيتنام قدمنا الأفراد والمال والسلاح إلى حكومة فيتنامية فاسدة، حيث استمر قادتنا في خداع أنفسهم والشعب الأميركي. واليوم تأتي الحروب مختلفة إلى حد ما عما كانت عليه إبان حرب فيتنام. لكن على إدارة أوباما والكونغرس والبنتاغون أن تقوم بها بالشكل الصحيح لأن ذلك سيعمل على صياغة النظام العالمي للجيل القادم. ولذا يجب علينا أن نتبنى أفكارا جديدة. فليست هناك ضرورة لأن نقصر أنفسنا على منظور واحد ضيق، ألا وهو الاشتراك في المحادثات عندما يتعلق الأمر بدول كالصين وروسيا والهند والبرازيل وتركيا أو كوريا الشمالية. إن الولايات المتحدة بحاجة إلى كل تلك الدول ودول أخرى أيضا إذا ما كنا سنواجه أخطر التحديات. وقد نضجت علاقتنا مع هذه الدول منذ الحرب العالمية الثانية عندما نضجت تلك الدول هي الأخرى. لكن هل يتصور أحد ما أننا سنتوصل إلى حل مقبول بشأن إيران بدون روسيا؟ وهناك سبب أدعى لأن نكون جزءا من قمة العشرين لا مجموعة الثمانية، فأضخم اقتصادات العالم اليوم لن تتمكن من التعامل مع قضايا اليوم بمفردها.

ومن ناحية أخرى، لن يعني التعاون الدولي التراجع عن معاييرنا أو قيمنا أو سيادتنا، لكن تطوير شبكات جمع ومشاركة المعلومات الاستخبارية وتدعيم الحلفاء والتعاون الدبلوماسي والتجارة والتنمية يمكن أن يحول تلك الاختلافات التي دامت زمنا طويلا إلى تأثيرات إيجابية بعيدة المدى في بناء عالم آمن ومستقر. هناك بالفعل العديد من الأشخاص والمنظمات الراغبة في هدم الولايات المتحدة ومن ثم فإننا بحاجة إلى قوة عسكرية سريعة ومرنة لمواجهة هذه التهديدات. لكن المهم هو كيف ومتى وأين يمكننا استخدام القوة شأن ذلك القرار باستخدامها. والاعتماد على القوة كأساس لاستراتيجيتنا العالمية كما فعلنا في السنوات الأخيرة لن يطول بقاؤه سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا وسوف يسفر عن مأساة غير ضرورية ـ خاصة بالنسبة للرجال والنساء والعائلات الذين يخدمون بلدنا.

هل تستحق سياساتنا تضحيات عظيمة من الأميركيين؟ يجب أن يظل هذا السؤال في مقدمة قرارات قادتنا، فالتهديدات الموجهة نحو بلادنا تأتي من أماكن غير أفغانستان، كاليمن والصومال. فهل نحن على استعداد لأن نضع قوات أرضية أميركية هناك؟ أشك في أننا سنفكر جديا في وضع قواتنا في باكستان برغم أن المناطق الجبلية القبلية على الحدود الغربية الباكستانية تؤوي أشرس أعدائنا اليوم. يجب علينا أن نغير من طريقة تفكيرنا الآن وأن نتبع مسارا حكيما للعمل وأن ننتهج سياسات أكثر إدراكا للواقع.

يجب على الرئيس وفريق الأمن القومي أن يستمعوا لتسجيلات المحادثات التي عقدها الرئيس ليندون جونسون مع السيناتور ريتشارد راسل حول فيتنام، لا سيما التي أخبر فيها جونسون راسل بأننا لا يمكننا النصر في فيتنام، لكنه لم يكن يرغب في الانسحاب وأن يكون الرئيس الأول الذي يخسر الحرب. ومن ثم فإن القرارات ذات النتائج التاريخية ستعن عما قريب للرئيس أوباما.

* سيناتور جمهوري سابق في مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية نبراسكا

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»