لماذا رفض نشر دوريات أمنية مشتركة في الموصل وكركوك؟

TT

طرح قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال رايموند أوديرنو أخيرا، مقترحا على الحكومتين الاتحادية في بغداد والإقليمية في كردستان العراق، اختص بنشر دوريات أمنية أميركية ـ عراقية ـ كردية مشتركة لحفظ الأمن والاستقرار في بعض المناطق الساخنة، المتنازع عليها بين أربيل وبغداد، مثل محافظتي نينوى وكركوك. معروف أن الأميركيين يرون في المحافظتين، إضافة إلى محافظة ديالى شرق بغداد، مواقع يمكن أن تشهد اندلاع أعمال عنف بين مكوناتها السكانية المتنوعة إثنيا: العرب والأكراد والتركمان.

صحيح، يتعارض المقترح الأميركي مع بنود الاتفاقية الأمنية الموقّعة بين واشنطن وبغداد نهاية العام الماضي. كما يتعارض مع سحب أميركا لقواتها من المدن العراقية، إضافة إلى تعارضه مع قرارها الخاص بسحب قواتها بشكل من كل الأراضي العراقية في آب (أغسطس) من العام المقبل. لكن الأصح من هذا كلّه، أن حساسية الوضع الأمني في العراق بشكل عام، وفي هذه المحافظات التي تعيش على صفيح أمني ساخن تحديدا، تفرض الإسراع في استحصال الموافقات المطلوبة لنشر الدوريات الأمنية المشتركة، على الأقل داخل مدينتي الموصل وكركوك. مع هذا كلّه، سارعت الأطراف المعنية، عدا الطرف الكردي، إلى إعلان رفضها المقترح الأميركي.

الأرجح أن الانتصارات الأمنية المحدودة التي كانت القوات الحكومية قد حققتها خلال عام 2008، أسهمت في تعكير الرؤية لدى الحكومة العراقية ذات الأغلبية الشيعية، مما دفع بها إلى رفض المقترح قبل درسه بشكل متأن. كذلك الحال مع قطاعات أساسية داخل المكون السنّي في الموصل وكركوك، حيث سارع العرب والتركمان في المحافظتين إلى رفض المقترح والمطالبة باقتصار حق نشر الدوريات على الجيش العراقي.

يشار إلى أن وحدات من البيشمركة الكردية التابعة للجيش العراقي تتولى حفظ الأمن في الجزء الأكبر من مدينة كركوك، إضافة إلى توليها الأمن في بعض مناطق الجانب الأيسر من نهر دجلة في مدينة الموصل. لكن البيشمركة دأبت على رفض أي انتشار أحادي للجيش العراقي في مناطق نفوذها، مؤكدة أن المناطق التي تنتشر فيها وحداتها هي مناطق متنازع عليها بحسب الدستور الدائم، وأن لا حق للحكومة العراقية بالانتشار فيها قبل حل مشكلة تلك المناطق بحسب المادة 140 من الدستور.

لكن الأطراف العربية والتركمانية، ألحّت على أن الحاجة الأمنية لا تستدعي بقاء البيشمركه في الموصل وكركوك بعدما اكتسبت الأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية خبرات ومهارات تؤهلها لإدارة الملف الأمني في المدينتين من دون طلب المساعدة من البيشمركة. لهذا، بادر العرب والتركمان إلى رفض المقترح الأميركي، ما يوحي بإمكان تحول الموصل وكركوك إلى ساحات لعنف عرقي إذا لم يتراجع المكوّنان عن رفضهما لفكرة الدوريات المشتركة، خصوصا بعد التفجيرات الإرهابية الواسعة في بغداد يوم الأربعاء الدامي.

المشكلة في العراق الراهن أن الحكومة لم تفلح في بناء الثقة بين المكوّنات السكانية، رغم أنها نجحت قبل نحو عامين في ضبط بعض جوانب الوضع الأمني في بغداد. كذلك، لم تنجح في تنشيط المصالحة الوطنية وإدخال إصلاحات جوهرية على العملية السياسية. إلى ذلك، أخفقت في إدامة الهدوء الأمني في بغداد لأكثر من عام. وكانت أحداث الأربعاء الدامي في بغداد إشارة واضحة إلى مدى إخفاق الأجهزة الأمنية والعسكرية في ضبط الحالة الأمنية.

فيما، لا يزال الجدل محتدما حول تداعيات الأربعاء الدامي في بغداد، يتخوف كثيرون من أن تكون الضربة المقبلة للمجموعات الإرهابية في الموصل أو كركوك. فالإرهاب في العراق لا تقتصر نشاطاته على تفجير الوضع الطائفي فحسب، بل تشمل كذلك تفجير الوضع العرقي. لهذا يظل الاحتمال قائما في اندفاع المدينتين إلى أتون إرهابي جديد، خصوصا مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في كانون الثاني (يناير) المقبل.

معروف أن أحداث الأربعاء الدامي أثارت نقاشات داخل أروقة الحكومة العراقية، كذلك داخل أروقة الإدارة الأميركية، حول مدى الحاجة إلى إعادة نشر قوات أميركية في المدن العراقية في مقدمتها بغداد. لكن إدارة الرئيس باراك أوباما تعتقد أن خطوة كهذه ستلحق أضرارا بالغة باستراتيجيتها في العراق وأفغانستان. هذا، فيما لمّحت مصادر عراقية مطلعة، لم تشأ كشف هوياتها، إلى أن المالكي في صدد التفكير، بشكل جدي، لطلب المساعدة العسكرية من الأميركيين لحفظ الأمن في بغداد خصوصا مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية واتضاح عجز الأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية عن حماية الشوارع العراقية من شرور الإرهاب. في كل الأحوال، يرى أكثر من طرف عراقي أن أحداث الأربعاء الدامي أكّدت خطل الدعوات الحكومية المتكررة إلى سحب القوات الأميركية من العراق. كذلك أوضحت واقعية مقترح الجنرال أوديرنو وضرورة درس تفاصيله بدقة بغية الأخذ بها. فالأوضاع في الموصل وكركوك ملتهبة، فيما يزيدها التردي الأمني والسياسي في بغداد التهابا. مختصون محليون في الشأن العراقي لا يستبعدون موجات من النشاطات الإرهابية في المدينتين قد تمهد لتسريع عملية اشتعال عنف عرقي مدمّر في العراق.

* وزير الثقافة في حكومة إقليم كردستان العراق سابقا