ثلاثة وجوه ووطن!

TT

أحد أهم الوجوه التي تسكن ضميري هو وجه «أم كامل»، تلك المرأة الفلسطينية صاحبة المنزل في جوار المسجد الأقصى، والتي دفع الصهاينة لها مليون دولار بالمتر المربع الواحد ورفضت أن تبيع رغم علمها علم اليقين، أنهم كعادتهم، سوف يهدمون المنزل أو يحتلونه دون أن يدفعوا لها دولارا واحدا كما فعلوا بمنازل الملايين من الفلسطينيين الذين يعيشون في المنافي والملاجئ داخل وخارج فلسطين منذ أكثر من ستين عاما، وكما فعلوا بمئات القرى الفلسطينية والسورية واللبنانية التي دمروها عن بكرة أبيها. هدم الصهاينة منزل «أم كامل» بعد أن يئسوا من إمكانية إقناعها بالبيع، فجلست على الركام وعاشت على الركام رافضة المغادرة كي لا يتم تهويد هذه القطعة من الأرض المقدسة.

«أم كامل» في هذا، مثلها مثل أفراد عائلتي حنون والغاوي وعشرات العوائل الأخرى الذين هدمت حكومة إسرائيل منازلهم، وممن أجبرتهم قوات الاحتلال على هدم منازلهم بأيديهم، فافترشوا أرض الشارع طيلة رمضان يلتحفون السماء، فيما يستولي المستوطنون الأجانب القادمون من البلدان البعيدة على منازلهم، التي ورثوها من آبائهم وأجدادهم على مر القرون، ولكنهم لم ييأسوا رغم الاضطهاد الوحشي، ورغم الوضع المزري لهذه الأمة التي لم يقف أحد منها في رمضان، وقفة حق مع هؤلاء.

مثل «أم كامل» وأفراد عائلتي حنون والغاوي مثل العلماء العراقيين الذين ووجهوا بالخيارين: إما الهجرة إلى البلدان التي دمرت وطنهم، أو الموت بتفجيرات «القاعدة»، ومع ذلك رفض الكثيرون منهم الهجرة فلقوا حتفهم على أرض الوطن رافضين ترك العراق لقمة سائغة في فم الأعداء.

لم يعد أحد يسأل أين هي العالمة «رحاب طه» وآلاف آخرون من علماء وباحثين ومفكرين، الذين يشكل أمثالهم مصدر افتخار واعتزاز في بلاد الغرب، بينما أطلقوا عليها اسم «الجرثومة» وهي المبدعة العالمة والتي لم تعتد على أحد ولم تقتل أحدا، وقد تبين زيف ادعاءات كولن باول بتصنيع العراق للأسلحة الجرثومية.

ومثل العلماء العراقيين مثل الأطفال والشباب والنساء الفلسطينيين والأجانب الذين يتظاهرون كل يوم في بلعين ونعلين ضد جدار الفصل العنصري ويتعرضون للضرب والاعتقال والقتل، وهم يعلمون أنهم لوحدهم وأنه لا أحد من كل هؤلاء القادة والسياسيين والإعلاميين، الذين يدعون الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان والسلام، يساندهم. ومع ذلك لا يكلون ولا يملون، ومثلهم في ذلك مثل المصلين يوم الجمعة في المسجد الأقصى الذين يعانون كل جمعة، ودون كلل، مشقة عبور مرهقة على حواجز احتلال عنصرية بغيضة ومهينة ومناقضة للكرامة الإنسانية وكل الشرائع السماوية والدولية، حيث يتعرضون للضرب والكسر والقتل والإهانة على هذه الحواجز أمام أنظار قادة العالم «الحر» ووسائل إعلامه، وحيث يتسلى الصهاينة بإطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي وغير المطاطي على المصلين المسلمين الذين بلغ بهم العمر عتيا، ويدوسونهم بالخيول، ويهددونهم بالكلاب مما يتسبب في حالات موت، وجروح، وإغماء، واختناقات، واعتقال، وذلك فقط كي يؤكدوا حقهم في الصلاة لله الواحد الأحد.

هؤلاء هم المدافعون عن قدسية المسجد الأقصى بأجسادهم وعقيدتهم وإرادتهم، وهؤلاء هم حملة شعلة حرية العبادة، وهؤلاء هم المدافعون عن حلم الخلاص من العبودية الصهيونية رغم التخاذل والتواطؤ والتهاون الذي يشهدونه من قبل الأشقاء المنشغلين بتبعيتهم لإرادة الأعداء، ورغم الازدواجية الغربية التي تدعي نشر الحرية، بما في ذلك حرية العبادة، ولكنها تخرس عن الدفاع عن حق الفلسطينيين في الصلاة.

أما الوجه الثاني، فهو ذلك الذي لا يرى في الوطن سوى ذاته وثروته ونوازعه الدنيوية مستترا بقيم ضيقة، وهو الذي يستسيغ حياة الوطن ومستقبله فقط، حين تزداد ثرواته وأبنيته وشركاته وأرقام حساباته، ولو في بنوك الآخرين، ويخرج من كل هذا وذاك متسولا على كوات جوازات السفر في البلدان الغريبة، واهما أن شقة فخمة في شارع في عاصمة أجنبية قد تتحول إلى وطن.

وسؤالي لهذا الوجه الثاني هو: أولا يتعظ، أولا يعتبر برؤية من طأطأ إرادته تحت أقدام الأعداء دهرا ثم انتهى إلى مكب النفايات في ضواحي العواصم البعيدة، أولم يتعظ برؤية من باعوا التراب والأوطان وخدموا المخططات التي تستهدفهم فاحترقت بهم مراكب المليارات من الدولارات ووقفوا في العراء أذلاء لا يملكون خيمة أو تربة أو جوازا أو مأوى؟

هذا الوجه الثاني الذي يتقمص وهو في موقع القرار شخصية الحريص، والمنتمي، والحكيم فقط ليمرر ما يريده منه الأسياد، أولا يشعر هؤلاء بالخوف وهم يرون مسؤولين في بلدان أخرى وقد تحولوا إلى مطربين ومهرجين ومحاضرين، وقد من عليهم العدو بجواز أو شقة تثار الأسئلة حول أحقيتهم بها، وحول المنطق من توفير اللجوء لهم؟ أولم يتعلم هؤلاء أن التراب الذي تحميه «أم كامل»، والركام الذي تجلس عليه عائلتي الحنون والغاوي، هو فعلا أغلى ما يمتلكه الإنسان، وأن الحياة بعيدا عنه لا تستحق العيش، لأنها حياة دون كرامة.

الوجه الثالث، هو وجه كل طفل من أطفال غزة الذي فشل العرب والعالم «الحر» أن يؤرشف معاناتهم وعذاباتهم وتفاصيل المجزرة التي تعرضوا لها، وإذ بي أفاجأ أن حركة «بتسليم» الإسرائيلية التي تدافع عن حقوق الفلسطينيين ضد جرائم الاحتلال، قد جمعت ملفات لهؤلاء، وبرهنت للعالم أن الجنود الإسرائيليين قتلوا عن عمد مئات المدنيين العزل من النساء والأطفال، لتبرهن للعالم مرة إثر أخرى، أن حكومة إسرائيل ترتكب الجرائم بحق المدنيين الفلسطينيين، ليس خوفا على أمنها ولا عقوبة لمن يهاجمها، ولكن في حرب إبادة منظمة ضد المدنيين الفلسطينيين والتي هي مستمرة منذ أكثر من ستة عقود، وذلك من أجل احتلال الأرض وتهجير السكان، ومن ثم الادعاء بأن هذه هي أرضهم وتهويد الأسماء والتاريخ والحجر بعد قطع الشجر وردم الآبار. واللافت أنه في هذه الأمة الإسلامية، وفي رمضان بالذات، لا يحرك كل هذا حمية المسلمين القادرين، إذا ما أرادوا، على تقديم العون المذهل للفلسطينيين وتعزيز صمودهم، والذي إلى حد اليوم يقومون به بأجسادهم وأرواحهم وأبنائهم وبدون دعم يذكر من العالم المتفرج؟

هذه الوجوه تختلط في وجداني، وأتساءل كل يوم كيف ينتفي الحد الواضح بين وجه يدافع عن المقدسات وهو أعزل من أي سلاح أو قدرات مادية سوى إرادته المبنية على قوة عقيدته وإيمانه بحقه في الحرية، ووجه يبيع كل شيء بصمته، وبتواطئه، بين وجه يرى دمه رخيصا في سبيل حرية الوطن من الطغاة، ووجه يرى في الوطن غنيمة، لأنه عبد للمال، أو الموقع، أو وهم السكينة الذي يعيشه. والمأساة أن هذه الوجوه تتبادل الظلال في واقع أمتنا اليوم، ويصعب على الكثيرين التمييز بينها نتيجة تسخير الإعلام من قبل من يستهدفنا لخدمة وتلميع صور أعوانه. حين تتضح معالم كل وجه في ضميرنا، يستعيد الوطن عافيته.

المشكلة اليوم هي أن مسميات الطائفية والمذهبية والعرقية قد تم اختراعها للتغطية على الفروقات بين هذه الوجوه، بينما الفرق الحقيقي هو التمييز بين وجه الانتماء لمعسكر الحرية، ووجه التواطؤ مع الطغاة، ووجه من يدفع ضريبة عدم التمييز بينهما.