نهاية الأوهام.. لبنان بلد ممنوع أن يكون

TT

«رأس الإيمان الصّدق»

(الإمام علي بن أبي طالب،

كرّم الله وجهه)

عندما كانت المعارضة، التي تصف نفسها بـ«اللبنانية»، تعتصم في قلب بيروت التجاري (خريف 2006)، فتعتصر منه الروح وتدمّر إمكانيات البلاد المعيشية والاقتصادية، وتلوّح بمهاجمة «السراي الكبير» حيث مقر مجلس الوزراء، وتغلق مجلس النواب، معطلة صوت الشعب لحساب رئاسة جمهورية مدّدت لها قوى «الأمر الواقع»..

عندما كان لبنان يعيش تلك المرحلة.. كان «حزب الله»، قلب المعارضة وعقلها وقبضتها الحديدية، يشكّك بشرعية الحكومة وتمثيل النواب بذريعة «سرقة» الموالاة مقاعد دائرتي بعبدا ـ عاليه وراشيا ـ البقاع الغربي. ومن ثم، كان السيد حسن نصر الله أمين عام «الحزب» يطالب بإجراء انتخابات مبكرة لإنهاء الأزمة، ويتعهد بأن المعارضة سترضى بأي نتيجة تسفر عنها تلك الانتخابات، وإن خسرت سترضى وتترك الطرف الآخر يحكم لفترة السنوات الأربع (فترة التفويض البرلماني) التالية. وطبعا، برغم الاعتصام المتطاول المستقوي بالسلاح، كان «الحزب» يكرّر التأكيد أمام اللبنانيين أن سلاحه غير موجّه إلى الداخل.

بعد ذلك، عام 2008، فاجأ «الحزب» بعض اللبنانيين باستخدامه سلاحه في الداخل، بحجة جديدة هذه المرة، هي «استخدام السلاح دفاعا عن السلاح». ومن ثم طوّر «الحزب» خطابه حول الانتخابات البرلمانية المقبلة.. وفي ظل الإصرار على ترويج شعار «المشاركة» (طبعاً لا تشمل السلاح) قال السيد نصر الله صراحةً إن «الحزب» عندما سيربح مع «حلفائه» (!؟) الانتخابات المقبلة سيعرض على «قوى 14 آذار»، بعد هزيمتها، دخول «حكومة وحدة وطنية».. لكنها إذا رفضت العرض فإن المعارضة جاهزة للحكم بمفردها.

كما نعرف.. الانتخابات الأخيرة أجريت وفق نظام انتخابي أيّدته المعارضة، وانتهت بانتصار جديد لـ«قوى 14 آذار». لكن السيد نصر الله مهّد للتراجع عن تعهّده بترك الطرف الآخر يحكم عندما ابتكر عبارة «الأكثرية الشعبية تختلف عن الأكثرية النيابية».

هذا بالنسبة لـ«حزب الله»، صاحب الصلات الإقليمية الاستراتيجية التي يعترف بها، بل ويفتخر بها ـ كما قال السيد نصر الله في موضوع «الولي الفقيه» ـ، ومن ثم يُعد جزءاً لا يتجزأ من رؤيتها لمنطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.

بالنسبة لحركة «أمل» برئاسة الرئيس نبيه برّي، الوضع مختلف إلى حد ما. ففكر الحركة وتركيبتها ومنظومة مصالحها وهويتها العربية كلها عوامل تفسّر حرص برّي الدائم على معادلة عربية ـ عربية وسنية ـ شيعية في المنطقة ككل، وفي لبنان بصفة خاصة. غير أن «أمل» غدت قوة هامشية على الصعيد الميداني، وهي تتحول شيئا فشيئا إلى «واجهة حوارية» لشيعة المعارضة مع الكتلة السنية والكتلة الدرزية وأكثر من نصف المسيحيين.. وربما لا شيء غير ذلك.

وهنا نصل إلى الحالة المَرَضية العونية.

هذه في الحقيقة ظاهرة تستحق الدراسة سيكولوجياً وسوسيولوجياً.. وربما، ثيولوجياً أيضا.

فبغض النظر عن الجانب الشخصاني للحالة العونية، وأحلام العظمة النابوليونية و«دور المخلّص» التاريخي التي تساورها من القمة إلى القاعدة، فإن ثمة قواسم مشتركة عديدة تبلورت عندها قبل «وثيقة التفاهم» مع «حزب الله». بل لعلها كانت عنصرا مسهلا للتوصل إليها، منها:

أولا: موضوع «العصمة». فالجنرال ميشال عون، مثله مثل الأئمة، معصوم عن الخطأ. الكل يخطئون إلا هو. الجميع فاسدون إلا هو. الجميع خونة إذا هو قرّر ذلك، لكن كائناً من كان يصبح طيباً و«ابن أوادم» إذا نزلت علية البركة «البرتقالية».. وما أدراك ما البركة «البرتقالية».

ثانياً: موضوع «العدل». فالجنرال يعتبر أن «اتفاق الطائف» ألغى العدالة وسلب المسيحيين الموارنة صلاحيات رئيس الجمهورية ليعطي الكثير منها إلى رئيس الحكومة المسلم السنّي (الصحيح هو أنه أعطاها لمجلس الوزراء مجتمعاً وفيه تساوٍ في عدد الوزراء المسيحيين والمسلمين). ولهذا غدا هاجس العونيين تأجيج العداء للمسلمين السنة، وتضخيم حجم تهديدهم للمصالح المسيحية، بل والوجود المسيحي نفسه... عبر تكرار الكلام عن خطط «التوطين» المزعوم للفلسطينيين. ومن ثم، الزّج بالمسيحيين في أتون التشنج السني ـ الشيعي الإقليمي بدلا من الاتعاظ بما يحدث لمسيحيي العراق.

ثالثاً: موضوع «المظلومية». فالعونيون، قائداً وأعواناً وجمهوراً، أقنعوا أنفسهم بالفعل أنهم قوم «مظلومون» و«مستضعَفون» و«مستهدَفون» ـ لأنهم على حق ـ في حالة كربلائية دائمة، وتحت اضطهاد قوى «استكبار» باغية.. تبدأ من قصر آل الحريري في قريطم ولا تنتهي في البيت الأبيض. وقوى «الاستكبار» هذه لا تنام الليل لانشغالها بالتفكير بأخبث الأساليب لاضطهاد الجنرال ومنعه من قطف حقه الطبيعي ـ كإمام معصوم ـ في الاستحواذ على كل شيء.. نعم كل شيء.

إن اضطرار سعد الحريري للاعتذار عن عدم تشكيل حكومة تريد له المعارضة أن يكون فيها «رهينة»، لا رئيساً، تطوّر خطير.. لكنه غير مفاجئ.

المفاجئ كان إقناعه بقبول التكليف، وتوريطه به.

فإسرائيل، في عهد حكومتها الجديدة، يمكن أن تُقدم على أي شيء لتدمير المنطقة. وهي برهنت المرة تلو المرة أنها لا تريد لبنان مستقراً ومتعافياً على حدودها الشمالية. كما أنها ضمن مفهومها الجيوبوليتيكي لا تقبل أصلا بوجود لبنان إلا كـ«صيغة انتقالية» محكومة بصفقات إقليمية بعيداً عن خيارات مواطنيه.

ومع الأسف، هذا هو أيضاً منظور الحكم في سورية إلى لبنان ككيان. فدمشق اعتبرت ولا تزال تعتبر أن ولادة لبنان عام 1920 كانت «خطأ تاريخياً» لا بد من تصحيحه. ويكفي ويزيد رصد ما يقوله نائب الرئيس السوري فاروق الشرع ووزير الخارجية وليد المعلم، حول لبنان، ليتبيّن لنا كم من الجهد تبذل دمشق لإفشال أي تفاهم لبناني ـ لبناني. وكيف تتدخّل في أدق تفاصيل الشأن الداخلي اللبناني عبر عملاء و«موظفين» لا صفة رسمية لهم ـ وغالبا غير سوريين ـ أمام خلفية الإعلان دوما عن أنها «مع كل ما يجمع عليه اللبنانيون» (!). ثم، برغم النفي الموسمي الذي يكذّبه الواقع، جاءت مسألة المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه لتضيف إلى حرص دمشق على المضي أبعد، ومهما كلّف الأمر، في منع قيام أي حكومة قادرة على الحكم بمنأى عن أوامرها وأوامر طهران.

وإيران تتصرّف، سواء بصورة مباشرة أو عندما ينطق باسمها «حزب الله»، بهدف تغيير النظام في لبنان. وإذا كان لنا تناسي الكلام عن «الجمهورية الإسلامية» التي لم يحن وقتها بعد ـ كما قال أحد قادة «الحزب» لدى استيضاحه هذه النقطة ـ، فإن جهات إيرانية تكلّمت فعلا عن نظام «مثالثة» شيعي ـ سني ـ مسيحي.. يحل محل «نظام الطائف» الذي «ما عاد يعكس الواقع اللبناني». وهذا بالضبط ما يعكف على تنفيذه «الحزب».. مستعيناً بتلويح العونيين الدائم بخطر «التوطين» لضرب أي معارضة مسيحية لتصغير حجم المسيحيين التمثيلي من النصف إلى الثلث.

أما عون فالقضية بالنسبة له مزدوجة الأهداف، أولها: «الثأر» من آل الحريري والثقل السياسي السني في موقع رئاسة الحكومة المتهم «عونياً» بتهميش موقع المسيحيين في هرم السلطة. وثانيها، التملق للشيعة بالتغطية على مشروع «المثالثة» من أجل الاستقواء بهم لاستعادة صلاحيات رئاسة الجمهورية (المطلوب عودتها لعون أو ولي عهده) والتصدّي عسكرياً لـ«التوطين».. إذا كانت هناك فرص لفرضه.

في ضوء هذه الحقائق، يصبح قيام أي حكومة في لبنان ضرباً من الخيال.

فعندما يصرّ تحالف المعارضة، وداعموه الإقليميون على الانقلاب على الدستور، وعلى تغيير نظام الحكم، وعلى تدمير الكيان.. تحت عاصفة من أكاذيب الرغبة بالتعايش والوفاق والسلم الأهلي.. يصبح من العبث «تجربة المجرّب».