الظاهرة الحريرية بين الواقع والطموح

TT

أزيح جانبا كل ردود الفعل الناجمة عن اعتذار سعد الدين الحريري، عن عدم الاستمرار في محاولة تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، لأتناول حاضر ومستقبل «الظاهرة الحريرية» في لبنان: هل هي حالة ظرفية ومؤقتة معرضة للغياب والتلاشي، أم هي تملك القدرة والمؤهلات للاستمرار والاستقرار؟

كان الظن المشترك اللبناني.. السوري.. الإيراني أن هذه الظاهرة تلاشت، أو ستتلاشى، بمجرد التغيب القهري للأب رفيق الحريري. هذا الظن الواهم ما لبث هو أن تلاشى، بمجرد تقدم الحريري الابن، لاحتلال موقع أبيه الراحل، ولتجسيد كل ما كان يمثل على المستوي اللبناني، وعلى الصعيد الإقليمي والدولي.

منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي، ارتبط الحريري الأب بمشروع إعادة إعمار لبنان. انتظر الحريري نهاية الحرب الأهلية (1991) ليبرهن على قدرة فائقة في إعادة بناء بيروت. جاء بناء مدينة صغيرة في قلب مدينة كبرى، كرمز للتعايش بين شطريها المسيحي والإسلامي، وليجدد الأمل في لبنان مدني مسالم قادر على التطور والتنمية. من مقاول ورجل أعمال ناجح، قدم الحريري نفسه أيضا رجل دولة. كان الحريري مقبولا في لبنان، كرجل بناء وإعمار، وكسياسي ورئيس حكومة لم يرتبط قط بالحرب الأهلية. بمعنى آخر، أستطيع القول إن الحريري، من غير وعي وإعلان، شَكَّلَ مشروعه السياسي، وربطه بمضمون اجتماعي. كان توفير الخدمات والبنى الأساسية الهدف الاجتماعي للحريري. وهكذا، انصرف إلى شق الطرق والمعابر والجسور للوصل بين اللبنانيين، ولتقديم الخدمات التربوية والتعليمية لألوف الطلبة من كل الطوائف.

في التسعينات، كان لبنان يشهد صعود مشروع سياسي آخر. كانت إيران الخميني ثم خامنه ئي قد استكملت تحقيق المشروع الشاهنشاهي القديم، في مسجد أجيال الشيعة الشبابية في لبنان والعراق، من أحزاب الأيديولوجيا السياسية، لتستوعبها في قوقعة الطائفة المغلقة على تيار موالٍ لإيران. تيار مُوغِل في طائفيته. مستقل في برنامجه الاجتماعي لتقديم الرعاية التربوية والصحية لأبناء الطائفة فحسب.

كان الصدام مروعا بين المشروعين السياسيين، ونذيرا بالشؤم على لبنان المعافى حديثا من حربه المجنونة. في طبيعة الحريري المسالمة، حاول الرجل دمج المناطق الشيعية بمشروع خدمات لكل لبنان. هذا الربط التنموي جوبه برفض وعرقلة من إيران، نفذهما «حزب الله» بدقة ضد مشروع الحريري. وخدم الحزبَ حملُ السلاح ضد إسرائيل. اكتسب السلاح الشيعي قبولا شعبيا لبنانيا، وشرعية «جهادية» عندما نجح الحزب في إجبار إسرائيل على الانسحاب من الجنوب (2000). ثم ما لبث الحزب أن فقد هذه الشرعية عندما شهر سلاحه في الداخل.

إزاء مشروع الإمارة الشيعية داخل الدولة اللبنانية، حاول الحريري مواجهة إيران بالاستعانة بسورية أولا، ثم مواجهة قوة المال الطائفي الإيراني، بقوة المال العربي. غير أن استثارة الحريري لعروبة سورية، لحماية عروبة لبنان، لم تلق نجاحا. الأسباب كثيرة: حلف سورية مع إيران. شبهة النظام السوري بسنّة لبنان، امتدادا لشبهته بإخلاص السنّة السورية له. غياب الجناح المدني (خدام) والعسكري المخابراتي (غازي كنعان) الذي اعتمد عليه الحريري، لاستمالة نظام بشار. أخيرا، ارتماء جناح ماروني قوي (إميل لحود. ميشال عون. سليمان فرنجية) في حضن سورية وإيران و«حزب الله»، ضد الحريري.

هذه المواجهة شكلت البعد الإقليمي لمشروع الحريري السياسي، بحيث غدا، بدعم من السعودية، وتأييد من مصر، المشروع العربي في لبنان المقاوم لمشروع الدولة الشيعية الطائفية الذي رَاوَدَ طموح حسن حزب الله منذ الثمانينات. في هذه المواجهة، تم «تدفيع» الحريري الثمن شخصيا بترحيله وتغييبه جسديا (2005).

هنا لست أتهم بتوجيه الأصابع، كما فعل كثير من اللبنانيين المستعجلين. الأمر متروك للمحكمة الدولية. إذا كانت تسريباتها الغامضة للصحافة الدولية صحيحة، فـ«حزب الله» بات في دائرة الاتهام والشبهة، لا سيما أن بعض الاغتيالات التي تلت اغتيال الحريري، جاءت لمصلحة الحزب. وفى مقدمتها، اغتيال بيار أمين الجميل الذي حاول إعادة تنظيم «حزب الكتائب» في البقاع الذي يعتبر العمق الاستراتيجي لـ«حزب الله»، والحديقة الخلفية لسورية.

كان ظهور الحريري الابن مفاجئا كغياب الحريري الأب. في وعي غير متوقع لدى شابٍ غريب النشأة والتربية والمعرفة بالبيئة المحلية، فقد اكتسب سعد الحريري شعبية، من العمل والظهور وسط تياره الشعبي (المستقبل)، وأظهر كفاءة في إدارة معركتين انتخابيتين فاصلتين.

في ابتعاده عن العمل الرسمي، توفرت للحريري الابن فرصة مناسبة لتطوير البعد الاجتماعي لمشروع أبيه السياسي. أعني بالتطوير الانتقال من الإعمار إلى الخدمات الاجتماعية: الصحة. التنمية. الاستثمار في الإنسان اللبناني، لتحسين مستواه المعاشي. زيادة دخله. تأمين عمل له. حث الرأسمالية المصرفية على الاستثمار في مشاريع التنمية طويلة الأجل. وليس فقط في مشاريع الخدمات السياحية والربح السريع السهل.

في لبنان، فقر. بطالة. هجرة. يأس. غضب. احتجاج. حتى الطائفة السنية تعافي اجتماعيا ومعاشيا، ومخاوف من الهيمنة الأمنية للسلاح الشيعي عليها في بيروت بالذات. من هنا، كنت أتمنى كمراقب سياسي، أن يؤجل الحريري الشاب اندفاعه نحو المنصب الرسمي (رئاسة الحكومة)، ليعكف على تنظيم تياره الشعبي، ربما تحويله إلى حزب سياسي يستوعب شبابا من كل الطوائف. ثم الإنفاق على مؤسسات الخدمة الاجتماعية، بالالتحام والتعاون مع مؤسسات الدولة، لا بالانفصال عنها، كما تفعل مؤسسات «حزب الله».

أيضا، ليستكمل تيار المستقبل بعده الوطني، لابد من الانفتاح أولا على طائفته، بإشراك زعمائها في خدمة المشروع الاجتماعي. كان توزير تمام سلام ومحمد الصفدي مفيدا لزعامة الحريري. كذلك، فالحريري بحاجة إلى مستشارين وخبراء في الاقتصاد والتنمية، من وزن وخبرة فؤاد السنيورة، أكثر من الحاجة إلى حاشية عريضة من رجال الإعلام والدعاية. أذهب في المصارحة إلى حد الأمل والتمني في استخدام قوة المال في الإنفاق على مؤسسات المشروع الاجتماعي الخادم لكل لبنان، لتعميق الإيمان الشعبي بعروبة لبنان، ولتوثيق الإخاء بين المواطنين السنة والموارنة بالذات، وليس فقط بين زعماء الجانبين، كذلك فالحريري الابن يستطيع أن يبذل جهدا لدي حلفائه المسيحيين (جعجع والجميل) لتضمين حلف 14 آذار/ مارس محتوى اجتماعيا أعمق. ولعل هذا ما كان يقصده وليد جنبلاط في نقده لرأسمالية الحلف الذي كان مشاركا فيه.

الإخفاق في دخول بيت الدولة، كرئيس للحكومة، ليس فشلا. إنه تجربة لشاب يملك طموحا كبيرا يُغالب الواقع الطائفي البائس. الاعتذار أيضا ليس قصورا. الإخفاق والاعتذار يمنحان الحريري فرصة للعودة إلى الالتحام بالشارع الشعبي، وللتنافس السلمي مع المشروع الإيراني الذي ينفق بسخاء على حزبه اللبناني، ومؤسساته الخيرية والاجتماعية.

ليس في لبنان سياسة. هناك دائما زعماء طوائف. هم مجرد ظواهر ظرفية عابرة. يخلفهم ويقلدهم فيها أبناؤهم وأحفادهم بعدهم منذ مئات السنين. سعد الحريري يملك الفرصة للتحول من ظاهرة كهذه الظواهر، ليقدم نفسه إلى اللبنانيين والعرب والعالم، كرمز لجيل لبناني جديد ومختلف، وكزعيم يملك مشروعا سياسيا ذا مضمون للعدل الاجتماعي.