استنزاف الطائفة

TT

حينما نقول إن هناك مشكلة طائفية في منطقة الشرق الأوسط، فماذا نعني بالضبط؟

العبارة فيها إيهام ولبس، في اللفظ والمعنى، أما اللفظ فهو يجزم بوجود «طوائف» تتصارع وتتحارب بينها، والحاصل أن هناك توتر ومناطحة بين «طائفتين» فقط، هم الشيعة والسنة، في العراق ولبنان والخليج واليمن وباكستان. ويوجد أصداء لهذا الصراع في المغرب ومصر والأردن وسوريا من خلال الحديث عن حملات التشييع المنهجية في هذه البلدان الأربعة التي لا يوجد بها شيعة أو يوجد بها شيعة بشكل يكاد لا يذكر.

إذن لا معنى للحديث عن طوائف، بل طائفتين، تحتكران ساحة المناطحة، قد تدخل طوائف أو تيارات من هذه الطوائف بشكل فضولي وطفيلي في هذه المناطحة كما هو حال تيار الجنرال عون أو حزب وليد جنبلاط في لبنان.

ليس هذا تمحكا لغويا وتدقيقا إملائيا بل هو إلى الوصف الرثائي لحال المشرق المجفف من تنوعه باطراد مخيف، لم يعد لمسيحيي المشرق من حضور وتأثير، دعك من ضجيج المسيحيين في لبنان أو زئير أقباط مصر الخارجي، مع أن أقباط الكنانة لهم وزن يذكر خلافا لبقية المسيحيين في المشرق.

أما الإيهام واللبس في المعنى، حينما نقول إنه صراع طوائف، فهو يشير إلى خلافات ذات سمة كلامية ولاهوتية وتاريخية، فمشكلة الطائفية أعقد من حصرها ببعدها الثقافي اللاهوتي أو الفقهي والتاريخي، هذا البعد، هو الشكل الظاهر لصراع أوزان وتضاد مصالح يتوشح بالطائفية كنوع من التعصيب والتحشيد اللازم لقيام عمود تلتف عليه الجموع المناصرة، لكنه ليس إلا عمودا تتجمع عليه الحشود وليس كل الصورة بل هو الخيط الناظم لها!

تلفت يمنة ويسرة، في مشرقنا المتوتر، ستجد استنزافا منهجيا لمشاعر الجمهور من أجل تطييفها، وسعيا حثيثا لتحويل الجميع إلى أفراد لا يجدون تعريفهم الحقيقي إلا من خلال الطائفية، مثلا «المستقبل» مع رفيق الحريري، غير المستقبل الآن، مستقبل رفيق كان أكثر ارتياحا وأقل توترا تجاه الآخر، الشيعي تحديدا، في لبنان، لكن تيار المستقبل مع سعد الحريري أصبح أكثر عصبية وأشد توترا، من السهل القول إن هذا التحفز الطائفي السني عبر المحرك الحريري، لم يكن إلا ردة فعل على السفور الطائفي الفج لحزب الله الخميني وتابعه حركة أمل، لم يكن الحريريون، أقلها في مستوى نخبهم وخطابهم، ينطلقون من حساسية طائفية، لكن التعطيل المنهجي المستمر من قبل الحزب الإلهي الأصفر وغزوات الاعتصام والخيام واجتياح بيروت واحتكار النقاء والشرف ووصم الحريريين، وتبعا السنة، بالعمالة لأمريكا، وإسرائيل ضمنا، هذه الأشياء، وغيرها، هي التي حشرت جمهور المستقبل بالزاوية وأفقدت قيادته القدرة على ضبط المشاعر الطائفية الغرائزية.

لكن هل تكفي هذه المطالعة لفهم الهيجان الطائفي العام، ليس في لبنان فقط، بل في العراق الذي يديره «شيعة السلطة» لا شيعة العراق، كما يصفهم الصحافي العراقي حسن العلوي، بطريقة انتقامية بدائية، العراق يكتظ بتخمة طائفية مغثية، وبدأت الحالة العراقية تصرف هذه التخمة على الجوار كله، وخطاب أمير الكويت الأخير الذي حمل غضبا شديدا من بروز النعرة الطائفية في بلاده، يمثل ضجرا من هذا الأثر السيئ.

لامناص من الاعتراف بأن مسرح الاحتقان السياسي في المنطقة هو مسرح طائفي في ملابس وماكياج ممثلي هذا الصراع، ولكن تحت الملابس وتحت أصباغ الماكياج تكمن صراعات المصالح، وتصحيح «أخطاء التاريخ» المتوهمة هنا وهناك.

إذا تعمقنا قليلا فلن تبدو الصورة بالسهولة التي تبدو لنا من أول وهلة، ولو تعرضنا للحالة السورية التي ينعت كثير من الإسلاميين السنيين نظامها بالطائفية العلوية، فإن الأمر يبدو أكثر تعقيدا مما نتخيل.

يحدثنا الكاتب السوري ياسين الحاج صالح في ورقة قيمة منشورة في كتاب حازم صاغية التجميعي «نواصب وروافض» أن أزمة الإخوان المسلمين، طيلة فترة الصراع مع الرئيس الراحل حافظ الأسد كانت في عجزهم عن تحويل السنة في سوريا الذين يمثلون حوالي سبعين في المائة إلى «طائفيين»، فكان إخوان سوريا «طائفيين بلا طائفة»! ومفارقتهم العجيبة أنهم كانوا أقل من طائفة ومع ذلك كانوا يحلمون بأمة كاملة! ويحدثنا الباحث عن مأساة حماة التي تناطح فيها الإخوان مع النظام سنة 1982 في كارثة حماة، ووصف المشهد السني بشكل يذهب عنه الواحدية الطائفية التي كان يرجوها الإخوان، يقول ياسين الحاج صالح: «خلال المواجهات الدامية لتلك الفترة كانت حماة وحلب تعارضان النظام بحدة، بينما الشام (دمشق) مسترخية، وحمص متململة فحسب، والرقة وحوران لا علم لهما، ودير الزور بالكاد تريم، والشوايا والبدو (فضلا عن الأكراد) إلى جانب النظام». فبحر السنة الغزير، كما أنه قد يحمل شعورا بالارتياح لدى من يريد الاستفادة من ثماره وطعامه، إلا أنه أيضا يحمل تناقضاته الداخلية.

لا نبعد، لماذا لم يجتمع أكراد العراق، وهم سنة، مع سنة العراق العرب، ضد شيعته، ليشكلوا جبهة سنية مضادة؟ ببساطة لأن الأمور ليست بالواحدية التي يتوهمها أبناء التفكير الطائفي أو الديني القاطع.

للسلطة، أي سلطة، طريقتها الخاصة في مقاربة المسائل الدينية والحساسيات الطائفية، فها نحن نشهد نشاطا اجتماعيا خصبا للتيارات والجماعات الإسلامية في سوريا، في ظل نظام علماني بعثي عروبي، هذا هو المعلن من هويته، فيما المضمر، حسب اتهام خصومه له، هو طائفية علوية مغطاة، ومع ذلك لم تتغير المواضعات الدينية السنية أبدا في «الشام» وما زالت الهيمنة السنية على «تعريف الإسلام» وتمثيله، قائمة وشاخصة وفعالة، في حالة تنتهي إلى ما وصفه ياسين صالح باتفاق «جنتلمان» غير معلن يقوم على تفرد أهل السلطة بالشأن السياسي وتفرد المحافظة الإسلامية بشأن المجتمع، ومع هذا اقتصاد متلبرل حديثا على أنقاض اقتصاد اشتراكي، يلف الجميع عباءة ضخمة من الحديث الغزير عن العروبة والمقاومة والوطنية، حديث يشترك فيه الجميع ليكون قماشا يسربل الجميع مانحا شكلا خارجيا موحدا.

إيران، من قبل الخميني حتى، كانت تقارب المسألة الشيعية مقاربة تصب في المصلحة السياسية، اشتغلت على الموضوع الطائفي لا حماسة للنعرة الشيعية بل من أجل حلب ثمار هذا التعصب الطائفي، وقد رأينا هذه الثمار تتساقط رطبا جنيا في سلة ملالي طهران من خلال حقول لبنان التي احتكر شيعتها حزب الله الخميني بعدما بذر هذه البذرة موسى الصدر من قبل. ويحدثنا عالم الاجتماع والكاتب اللبناني أحمد بيضون، في ورقته الخاصة في نفس كتاب حازم، عن كيفية تسرب الطقوس الصفوية الصاخبة إلى شيعة لبنان، وكيف أن التشيع اللبناني من قبل لم يكن فاقعا ولا مسرحيا في ظهوره، حتى جلبته تأثيرات إيرانية، ثم انحصرت في مدينة النبطية، ليأتي حزب الله بعد ذلك بمدة ويعمم «الحالة النبطية» في كل لبنان الشيعي، ويلقحها بمضامين خمينية احتشادية، وتّرت المزاج الشيعي اللبناني، كل ذلك لم يكن مجرد حماسة طائفية مجردة بل أداة سياسية لخلق حاضن جماهير وعازل نفسي للجماهير المطلوب احتشادها حول هذا المشروع السياسي.

في اليمن يأتي المثال صارخا، فقد تحول زيدية اليمن الذين هم أقرب إلى «أهل الحديث» السنيين منهم إلى الشيعة الإمامية، تحولوا إلى جيب خميني، بفعل ضغوط سياسية داخلية وخارجية، وليس بسبب مبررات فكرية محضة، السياسة هنا قادت الفكر وخلقت الطائفة.

صفوة القول إن بعث الحس الطائفي الشيعي ـ السني، ليس إلا أداة بيد السياسي هنا وهناك، وغالبا الطوائف يتصرف بها ويتحكم بوتيرة تهيجها خمودها لاعبٌ سياسي. حتى أكثر الطوائف انغلاقا وعزلة، مثل الطوائف الباطنية الإسلامية، تتخلى عن تمثيل طوائفها مراعاة لمنطق السلطة وحمايتها، حصل ذلك في مصر الفاطميين من قبل ويحصل الآن.

الخاسر في هذا الضجيج الطائفي كله، هو الصوت المدني ومنطق الدولة الحديثة، ومعه فكرة إنسان عربي يستمد هويته وتعريفه من معطى مدني عابر للطوائف.

لو أثمرت هذه المناطحة الكبرى بين السنة والشيعة عن هزيمة للفكر الطائفي في المنطقة، فسيكون هذا فتحا كبيرا واختراقا عظيما في جدار الجمود التاريخي، ولكن كم، يا ترى، سندفع ثمنا لهذا الفتح؟ والأهم هل سنضمن أن نحصل على جائزة العبور من نفق الطوائف إلى مروج المدنية الزاهية..؟

[email protected]