نهاية عصر الحادي عشر من سبتمبر

TT

في الأيام الأخيرة من شهر يناير 2002 كنت في مدينة نيويورك لحضور مؤتمر المنتدى الاقتصادي العالمي المعروف باسم منتدى دافوس والذي انعقد لأول وآخر مرة خارج الجبال السويسرية بسبب الأحداث المروعة التي جرت في الحادي عشر من سبتمبر قبل شهور من انعقاد المؤتمر. كان العالم قد تغير كثيرا خلال هذه الشهور، حيث جرى الهجوم الأمريكي الغربي على أفغانستان، وظهر معتقل جوانتانامو، وحدثت العديد من العمليات الإرهابية حول العالم، وقال الرئيس الأمريكي جورج بوش آنذاك إن من ليس معنا فهو ضدنا، وإنه سوف يطارد الإرهابيين، حيث يظن بوجودهم، فيما عرف بالحرب الاستباقية، وكانت الرياح تقول إن غزوا آخر سوف يحدث في المستقبل القريب ربما يكون في العراق.

ومن بين جنبات المؤتمر وجدت صديقي القديم الدكتور إبراهيم المهنا من أيام الإقامة في معهد بروكينجز في واشنطن عام 1987 خبيرا مرموقا ضمن المجموعة السعودية في المؤتمر في شؤون البترول والاقتصاد الدولي. كنا جميعا، مجموعة العرب في المؤتمر، في مهمة شبه مستحيلة للدفاع عن بلادنا وعن الإسلام، بعدما جرى من أحداث مروعة كان أبطالها جميعا من العرب والمسلمين. وحينما اقترح صديقي ضرورة الذهاب إلى مكان الواقعة الكبرى استجبت فورا، وعندما وصلنا إلى مكان ركام برجي مركز التجارة العالمي الذي طالما زرناه من قبل عندما كان قائما، كان هناك طابور طويل من البشر لا ندري عما إذا كانوا قد جاءوا للتعزية أو السياحة. وقفنا في الطابور على أية حال وبعد وقت طويل وصلنا إلى نقطة حراسة في المكان تسألنا عن بطاقات الزيارة التي تسمح لنا بالدخول والتي كان علينا شراؤها من مكان آخر لم نكن نعلم عنه شيئا. وهكذا أصبحنا أمام معضلة إما أن نخرج لشراء البطاقات ثم العودة إلى أول الطابور لكي تضيع ساعة أخرى بعيدا عن المؤتمر، أو ننسى الموضوع كله ونتركه إلى مناسبة أخرى. وهنا لم يجد الصديق بدا من المصارحة، حيث قال للشرطية التي تفحص البطاقات: صديقي هذا مصري، أما أنا فسعودي، وقد جئنا من أجل الصلاة على ضحايا الحادث ولم نكن نعلم شيئا عن مسألة البطاقات هذه. كان المهنا ببساطة يطرح على السيدة مصالحة تاريخية بين شخصية جاء من بلادها الرجل الذي قاد عملية الهجوم على مركز التجارة العالمي ـ محمد عطا ـ وشخصية أخرى جاء منها خمسة عشر من هؤلاء الذين قاموا بالهجوم. وللمفاجأة سمحت لنا الشرطية بالمرور لكي نقف على أطراف الركام الذي كان قد سوي بالأرض، ونقرأ الفاتحة، ونتأمل فيما آل إليه العالم بعد ذلك الحادث المروع.

كان العالم قد انقلب رأسا على عقب، فطوال العقد الذي سبقه كانت الحرب الباردة قد انتهت، وسقط الاتحاد السوفيتي وكتلته وفلسفته، وبزغت العولمة كشمس ساطعة بالسلام والتطور التكنولوجي والتنمية الاقتصادية. ورغم وجود كثرة تخوفت من «الانفراد الأمريكي» بالعالم فإن الأمر لم يكن مقلقا للأغلبية من دول العالم، حيث كان الاعتقاد سائدا بالسيادة الأمريكية على الدنيا حتى قبل انتهاء الحرب الباردة. وعلى أي الأحوال فقد كانت الأمم المتحدة قد خرجت من أسرها لكي تناقش مشكلات البشر والكوكب، وعقدت مؤتمرات عالمية للأرض والسكان والمرأة وحقوق الإنسان، وهكذا أمور تخص سكان المعمورة.

ولكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر جاءت لكي تهز الدنيا كما لم يهزها حادث من قبل حتى أخرجت حلف الأطلنطي من دياره الأوروبية لكي يصل إلى وسط آسيا، بينما راحت الولايات المتحدة تهز العالم بالتهديد والعسكر والتصميم على تغيير النظم والدول. وخلال السنوات الثماني التالية لم تعد الدنيا كما كانت، وصار للعولمة بعد أمني يفرض نوعا من الحصار الصامت، أو الحجر المكتوم، على الدول العربية والإسلامية، وباتت العولمة واقعة في تناقض رهيب ما بين منطلقاتها التي تقوم على وحدة البشرية وواقعها الذي يقول إن الوحدة ببساطة ليست قائمة لتنازع الهويات والحضارات والأفكار.

ولكن الزمان دار دورة كاملة، وحدث ذلك بسرعة لم تحدث من قبل، فقد احتاج نظام توازن القوى القائم على تعدد الأقطاب حوالي قرن ونصف بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين حتى يصل إلى نهايته، واحتاجت الحرب الباردة القائمة على القطبية الثنائية أقل من نصف قرن حتى تصل إلى نهايتها، أما انفراد القطب الواحد الأمريكي بالعالم فلم يكتمل له عقدان من الزمن. ومن الممكن التأريخ لنهاية النظام الأخير بانتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي حينما بات واضحا أن نظرية وطريقة جورج بوش الابن في إدارة العالم قد فشلت ولا بد من مراجعتها، وكانت بداية المراجعة هي الإطاحة بجماعة المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية. ولكن المرجح أن المؤرخين سوف يفضلون انتخاب باراك أوباما كنقطة نهاية لنظام مضى، وبداية لنظام جديد، ربما لا نعلم كل ملامحه بعد، ولكن بعضا منها بات واضحا.

أولها، التوجه الانفتاحي والسلمي لإدارة أوباما في صياغة علاقات مع الأصدقاء والخصوم في آن واحد، وهو ما اختلف كليا عما كان سائدا في فترة جورج دبليو بوش التي خيم عليها ثنائية «مع أم ضد»، والتي كانت حاكمة في الإطار الأمريكي لمكافحة الإرهاب مع إغفال المنظورات الأخرى لمواجهته وتجفيف منابعه.

وثانيها، التخلي عن مبدأ الحروب الاستباقية الذي مثل ركيزة أساسية للسياسة الخارجية الأمريكية والأمن القومي خلال مرحلة ما بعد 11 سبتمبر، وهو ما انعكس في شن الحرب على أفغانستان (7 أكتوبر 2001) وغزو العراق (20 مارس 2003).

وثالثها، إغلاق معتقل جوانتانامو، وإعلان باراك أوباما أن الولايات المتحدة لن تعذب أو تشارك في عمليات تعذيب، على عكس نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني الذي قال إن هذه الخطوة ستجعل الشعب الأمريكي أقل أمنا.

ورابعها، التخلي الأمريكي عن النزعة الانفرادية في مواجهة الأزمات الدولية، وقالت هيلاري كلينتون «ليس في وسع الولايات المتحدة الانفراد بحل أكثر المعضلات العالمية، وليس بمقدور العالم حل المعضلات نفسها بعيدا عن الدور الأمريكي، وهذا ما يلزمنا استخدام ما يسمى بالقوة الذكية المؤلفة من مجموعة من الأدوات لا تزال رهن تصرفنا». وخامسها، اتباع الوسائل الدبلوماسية وتجنب استخدام القوة العسكرية كآليات لحل المشكلات، والحرص على التوصل للحلول الوسط وحل الخلافات الحادة في وجهات النظر، وهو ما انعكس في الاهتمام الأمريكي المتزايد بمسألة المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي في البؤر الصراعية والمناطق الملتهبة في العالم.

وسادسها، التصاق الأمن الأمريكي بالأمن العالمي حينما أظهر أوباما ارتباط كل القضايا ببعضها البعض انطلاقا من أن مفهوم الأمن القومي الأمريكي لا ينحصر في القوة وإنما يتطلب الأمن القومي الأمريكي ضمان الاستقرار في العالم وخاصة في الشرق الأوسط وتأمين تدفق البترول من المنطقة والتصدي للنزاعات الإقليمية ومعالجة ظواهر التطرف والفقر والبطالة.

وسابعها، طي صفحة التعصب الموجه ضد حضارة معينة وثقافة بذاتها، وهي الحضارة العربية والإسلامية، وتلاشي الرواج لمقولات صراع الحضارات وصدام الثقافات، التي انتعشت بعد 11 سبتمبر.

وثامنها، بروز التجمعات الكبيرة على الساحة الدولية، وظهور قوى جديدة أصبحت تنافس القوى التقليدية الموجودة، وباتت التكتلات الاقتصادية الكبرى مثل مجموعة العشرين تعد لاعبا رئيسيا في صنع القرار الاقتصادي العالمي. وفي هذا الإطار أصبحت مجموعة العشرين قوة اقتصادية عالمية يعتد بها، لاسيما بعد أن اتجهت الولايات المتحدة إلى التنسيق والتعاون مع الدول الاقتصادية الكبرى لإنقاذ العالم من الأزمة الاقتصادية، لدرجة دفعت البعض إلى التأكيد على أن مجموعة العشرين للدول المتقدمة والنامية باتت بديلا عن مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى في قيادة الاقتصاد العالمي.

وتاسعها، عودة الدولة من جديد، فقد أدت الأزمة المالية العالمية إلى إثارة الكثير من القضايا الخاصة بمستقبل النظام الاقتصادي العالمي، سواء فيما يتعلق بمستقبل الرأسمالية واقتصاد السوق وتدخل الدولة، وهو ما أدى إلى تصاعد الأصوات الداعية لعودة الدولة الحارسة التدخلية مرة أخرى لضبط السوق.