الانتخابات القطرية شأن دولي

TT

صرحت الأمم المتحدة رسميا بعد عشرين يوما من الانتخابات الرئاسية في أفغانستان، بأنها تشك في فوز الرئيس الأفغاني كرازاي، نظرا لبروز علامات بديهية على وجود غش شاب العملية. ولم تتصد المنظمة العالمية إلا مرات قليلة لإصدار إدانة صريحة لتجربة تخص شأنا داخليا في دولة عضو، منها تستمد الأمم المتحدة وجودها.

وقد دأبت منظمة الأمم المتحدة، منذ 1992، على اتخاذ هذا النوع من المواقف تجاه أحداث داخلية في الدول الأعضاء، حينما تم الأخذ بما سمي بالدبلوماسية الوقائية، على أثر اجتماع طارئ عقده مجلس الأمن بحضور رؤساء الدول في 31 يناير 1992. ورافق ذلك التعبير عن الاهتمام بإحاطة العمليات الانتخابية التي تجري في الدول الأعضاء بكل الظروف التي من شأنها أن تكفل مصداقيتها. وأنشئت مديرية خاصة في الأمم المتحدة، أسند الإشراف عليها لنائب الأمين العام في الشؤون السياسية، لتقديم المعونة الممكنة في هذا الصدد لمن يطلبها من الدول الأعضاء. وكان البيان الذي صدر عن مجلس الأمن في الاجتماع الاستثنائي المذكور، قد أدرج ضمن أمهات المسائل التي تخدم السلم العالمي «مراقبة الانتخابات والتحقق من احترام حقوق الإنسان».

وبمقتضى هذا التوجه للتدخل في الشأن الداخلي للدول الأعضاء، كانت لجنة للأمم المتحدة قد شككت في الظروف التي أجريت فيها الانتخابات في يونيو 1997 بالجزائر. وحينما ارتفعت درجة التوتر بين هذه الدولة المعنية والمنظمة العالمية، من جراء ذلك الموقف، تمادى كوفي أنان الأمين العام آنذاك، فقال إنه لا يمكن أن يترك الشعب الجزائري بدون حماية. أي أنه أعطى للمنظمة مسؤولية وصاية هي من صميم صلاحيات الحكومة القطرية.

ومنذ البداية كان منتظرا أن تثير مسألة تدخل الأمم المتحدة في الشأن الداخلي للدول الأعضاء بمناسبة التجارب الانتخابية صعوبات من كل نوع. ومع ذلك فإن حالات واضحة المعالم جعلت الأمم المتحدة لا تتوانى عن التعبير بدون لبس ليس فقط عن تشككها في الظروف المصاحبة لإجراء الانتخابات، بل وصلت أحيانا إلى حد الإعلان بخصوص الحالة السياسية في زيمبابوي، أنه من المستحيل إجراء اقتراع نزيه.

وأما في حالة أفغانستان، فإنها تطرح منذ البداية إشكالية سياسية تتمثل في أنه بعد ثماني سنوات من التدخل العسكري لتحالف دولي، لم يتم القضاء على أسباب تدهور الأوضاع في ذلك البلد، وخصوصا اليد العليا التي للمتطرفين في مصيره. فإذا كان قد أزيح «طالبان» من الحكم في كابول، لم يتأت القضاء على «القاعدة»، التي حاولت ما وسعها من جهد لعرقلة إجراء الانتخابات الأخيرة. وكان بان كي موون، فد أهاب بالناخبين الأفغانيين بأن يشاركوا بكثافة في الانتخابات، أملا في أن يكون ذلك خطوة نحو إقرار السلم والحكم المدني في البلد المنكوب بالفتن، منذ ما يزيد على ثلاثة عقود.

لقد ارتفع عدد الدول الآخذة بالأساليب الديموقراطية لضبط التناوب السلمي على الحكم. ففي ظرف العقدين الماضيين أقدم 81 بلدا على اختيار الديموقراطية، وفي 33 بلدا حل الحكم المدني محل النظام العسكري. وسجل تقرير التنمية البشرية لسنة 2002 أنه من بين 200 بلد في العالم، أصبح 140 منها يلجأ إلى تنظيم انتخابات تعددية. وبقي مع ذلك أمرا غير مسلم به أن تكون تلك الانتخابات نزيهة ومقبولة من لدن جميع الأطراف.

لقد أجريت انتخابات في المدة الأخيرة في اليابان. وبمجرد إعلان النتائج كان الجميع يسلم بالنتائج، مع أن تلك الانتخابات كانت قد أسفرت عن زلزال كبير، إذ حل حزب جديد نسبيا محل الحزب الليبرالي، الذي مارس الحكم لمدة تزيد عن نصف قرن. وظهر أن الناخبين قد قلبوا المشهد السياسي جذريا. فالحزب الحاكم انتقل من 303 مقاعد إلى 119. والحزب المعارض الذي نشأ عن انشقاق، حدث منذ 12 سنة، من الحزب الليبرالي، قد انتقل من 211 مقعدا إلى 308. ومما زاد في قيمة ومعنى هذه المعطيات أن 70 في المائة من بين 104 مليون ناخب قد هبوا إلى صناديق الاقتراع. ودلت التجربة الانتخابية على أن هناك إرادة واضحة في التغيير خامرت الكتلة الناخبة، وهي التي رجحت. واعتبرت هذه النتيجة نهائية على الصعيد الداخلي، وباعثة على الاحترام على الصعيد الدولي.

وظهر أن اليابان قد استحمت في الخمسين سنة الماضية، وتطهرت من التهمة التي ظلت لمدة طويلة تلصق بالأقطار الشرقية، بأنها غير متقبلة للديموقراطية. والواقع أن هناك دولا تعطي ما يكفي من الحجج، على أن ما سمي بـ«الاستبداد الشرقي» ليس موروثا ثقافيا، بقدر ما هو مرتبط بالإرادة السياسية.

استطرادا، أرى أنه يمكن القول إن اليابان مثل ألمانيا، شعبان عرفا كيف يستفيدان من الهزيمة التي منيا بها في الحرب العالمية الثانية. بينما بقيت المجموعة العربية التي تجرعت ما لا مزيد عليه من الهزائم، غير قادرة على الاستفادة من تجاربها. بل إن مفارقة عجيبة حصلت وهي أننا لم نعترف بهزائمنا، إن لم نعتبر أنها كانت انتصارا، كما قيل فعلا في 1967.

والإرادة السياسية هي التي حدت ببلد مثل ماليزيا، وهو بلد متشبع بثقافته الشرقية ومتشبث بها، وهو فوق ذلك بلد مسلم، وقد استطاع أن يحقق إنجازين كبيرين هما تحقيق طفرة اقتصادية ملفتة للنظر، وانتظاما في الصيرورة الديموقراطية، وكل هذا في ظل التمسك القوي بالقيم الإسلامية، وبالتقاليد الوطنية، وفي ظل تعددية عرقية متوازنة وعقلانية.

وتعطي ماليزيا المثال على أن الإسلام ليس عرقلة، بالنسبة للتحديث ولا بالنسبة للتقدم الاقتصادي. وهذان أمران تتعثر فيهما أقطار مجاورة تنتمي لنفس الثقافة، ولكنها تتعثر فيما يخص التسلح بمشروع وطني قوي. أما ماليزيا فقد اجتازت بنجاح فترة الاضطراب التي مثلها الانتقال من التبعية الاستعمارية إلى التحرر الوطني. وها هي تنتصب مثالا للتقدم مثل كوريا الجنوبية ـ طبعا ـ ومثل تركيا في الطرف الآخر من منطقة التماس بين أوروبا وآسيا.

وتتميز تركيا بدورها، بأنها تخلصت من الجرثومة الانقلابية، منذ مدة، إذ كف العسكر عن التدخل في الحياة السياسية كلما ظهرت نتائج انتخابية لا تروق للجنرالات. وقد عصمها من ذلك عامل خارجي هو «الهاجس الأوروبي» الذي يتملك مشاعر المجتمع والمؤسسات التركية. ويمكن القول إن الورقة الرابحة في التجربة التركية هي استبعاد شبح التدخل العسكري لتحسين الصورة في الغرب وصولا إلى التأهل للالتحاق بأوروبا. وفي سبيل هذا الهدف ابتلع كل من الجيش وحزب العدالة والتنمية شروطا ثقيلة. وفي غمرة ذلك يتدرب الجيش التركي على أن يتصرف مثل بقية الجيوش في أوروبا، والحزب الحائز على الأغلبية حاليا يتدرب على أن يحل اقتناعاته الدينية في مكانها، والبرنامج الاقتصادي والاجتماعي في مكانه، بحسابات سياسية واقعية تؤدي إلى نجاح مضاعف يتمثل في تحقيق تقدم اقتصادي وتطور سياسي في اتجاه توطيد دولة القانون.

ومن هذا وذاك يتأكد أن عدم الأخذ بالأساليب الديموقراطية، إنما يحدث بمقتضى حسابات خاصة يتذرع بها الماسكون بالحكم هنا وهناك، من أقطار آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. فليس الأمر مرتبطا بالتراث، بقدر ما هو مرتبط بالافتقار إلى قوى مؤهلة للقيادة، وبانعدام ميزان للقوى يرجح التوجه نحو دولة القانون. وإلا فلماذا تكون الديموقراطية أسلوبا مقبولا في السينغال، وتصبح مسألة عويصة في الغابون، وهما من نفس الأرومة.