نحو بنية نقدية جديدة

TT

يمر العالم الإسلامي اليوم بحالة من «التيه الثقافي» لم يسبق له أن مر بمثلها. ينفلت المسلمون في اقتباساتهم من الحضارة الغربية، دون النظر إلى ضرورية ذلك الاقتباس، أو تماشيه مع دينهم وعاداتهم. وغالبا ما يقتصر الاقتباس على المظهر دون الجوهر، وعلى النتائج دون فهم المقدمات والأسباب. فتبقى المسألة شكلية بعيدة عن أسس الحضارة ومبادئها. لذلك لم ينجح المسلمون في تحقيق المعنى الحضاري للمواطنة، ولا التنمية الاجتماعية. ناهيك عن تفشّي الأمية والفقر. مما يعني أن المسلمين لم يستفيدوا من اقتباساتهم التي قطعوا فيها زمنا طويلا. ولم تغير تلك الاقتباسات صياغة الفرد المسلم، ليصبح مشاركا في بناء دولته، متساميا فوق الكيانات الصغرى، من قبيلة وطائفة وحزب. ولم يصلنا بعد نموذج الفرد/ المواطن الذي صنع الحضارة الغربية خلال القرنين الماضيين.

نجح المفكرون الغربيون في تشكيل البنية الفكرية السليمة المناسبة، التي أصبحت في ما بعد نواة للنهضة العلمية الشاملة. في حين يتوافر للعالم الإسلامي علماء مبرزون في الهندسة والفيزياء وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. لكنهم لم يجدوا البيئة المناسبة، التي تتيح لهم، صنع الحياة، وتغيير واقعهم. فكان الحل هو الهجرة إلى المكان المناسب. فتبوأوا مناصب عالية، وحققوا إنجازات علمية رائدة، سُجلت باسم الحضارة الغربية. عدم وجود البنية الفكرية السليمة، جعل العالم الإسلامي اليوم يعيش في «التيه الثقافي». غربة عن التراث الماضي، وعجز عن استيعاب الثورة الحاضرة. هذا يولد ـ بلا شك ـ عقدة النقص. التي تُشعِرنا أن العالم لا يُعيرنا اهتماما. وأننا سنبقى اليد السفلى التي تعيش على ما تمنحها اليد العليا. فنحن أحوج ما نكون إلى البيئة النقدية المناسبة، لتمكين علمائنا المسلمين في الفنون كافة من إحداث التحولات الفكرية اللازمة لمشروعنا النهضوي المتوافق مع روح الإسلام المستفيد من كل ما لدى الحضارات الأخرى. تحولات تعيد الصياغة الذهنية للفرد المسلم ليكون فردا مبدعا ومستقلا ذهنيا بعيدا عن الانبهار الشكلي بما لدى الآخر. و بعيدا عن هيمنة الفكر الجمعي المعيق.

فقد ساهم الفكر الجمعي لدينا في تهميش الفردية، وسلب الفرد قدرته على الإبداع. فيما غابت العقلانية المنطقية عن الاحتكام والقياس. إضافة إلى التطرف بنوعيه، والبعد عن التوسط في الأمور والموازنة والتوفيق بينها. ولا يمكن علاج ذلك إلا بإيجاد فهم نقدي صحيح لذواتنا وقضايانا، يمكّننا من استيعاب ما لدى الآخرين، وفرزه حسب منهجيتنا النقدية تلك، وعدم التسليم بكل ما نقتبسه من الثقافات الأخرى. مع عدم الركون إلى هيمنة نمط تقليدي معين. فهل من سبيل لتلك البنية النقدية الجديدة ؟ وكيف؟