لبنان الديمقراطي.. ودكتاتورية التعطيل

TT

من حق العرب، وبالذات الخليجيون والمصريون والسوريون، الذين بات الحريري الابن سعد الدين جزءا من اهتمامهم مثل الذي كانت عليه حال الحريري الأب الرئيس الشهيد رفيق الحريري، أن يعرفوا لماذا تيسَّر أمر الترؤس للمرة الأولى للأب قبل سبع عشرة سنة ولماذا تعثرت محاولة الترؤس الأولى للابن فوصل بعد معاناة دامت ثلاثة وسبعين يوما إلى أن يعتذر عن محاولة التشكيل ما دامت الصيغة التشاطرية التي انتهى إليها لم تلق القبول من الطيف الذي يتحرك وفق ثارات مِن الواقع الذي انتهت إليه الانتخابات النيابية.

في زمن حكومة الحريري الأب كان رئيس الجمهورية هو المرحوم إلياس الهراوي الرئيس الأول الذي لم يشمله العقاب الذي أُنزل في حق النائب رينيه معوَّض الذي استقر عليه التوافق العربي/ الدولي ليكون هو الرئيس الأول للجمهورية بموجب اتفاق الطائف وتمّ انتخابه في القاعدة العسكرية الجوية في بلدة القليعات شمال لبنان يوم الأحد 5 نوفمبر(تشرين الثاني) 1989. لكن تبين أن في هذا التوافق ثغرة ما، ذلك أنه تمت تصفية الرجل على نحو تصفية الحريري الأب يوم الاثنين 14 فبراير (شباط) 2005. وعلى رغم فداحة الخسارة التي تتساوى مع فداحة خسارة مارونية أخرى كانت قد سبقتها وتمثلت باغتيال النجم الأكثر سطوعا في حرب الخمس عشرة سنة التي اكتوى بنيرانها لبنان، الرئيس بشير الجميل الذي جرى انتخابه في المدرسة الحربية يوم 23 أغسطس (آب) 1982 لكنه نال من الرئاسة جلسة الانتخاب من دون أن يتمكن من أداء القسم، وذلك نتيجة اغتياله أيضا على نحو اغتيال رينيه معوض ثم رفيق الحريري بعد ذلك. وجاء الاغتيال بالنسبة إلى بشير الجميل يستبق جلسة للبرلمان كان من المقرر عقْدها يوم 23 سبتمبر (أيلول) 1982 من أجل أداء اليمين الدستورية. وقد يكون تسريب نص الخطاب الذي أعده لإلقائه في الجلسة أحد أسباب تصفية الرجل الذي ابتهج الرئيس السَلَف إلياس سركيس بعد إعلان انتخابه في البرلمان بأصوات 57 نائبا من أصل 62 حضروا الجلسة بعد تأخير لافتتاحها ساعتين ونصف الساعة لإحضار النواب على طريقة إحضار زهير محسن زعيم منظمة الصاعقة (الفلسطينية الموالية للحكم السوري) النواب قبل ثلاث ساعات من عقْد جلسة انتخاب إلياس سركيس يوم السبت 8 مايو (أيار) 1976. وعندما نستحضر بعض مضامين ذلك الخطاب تتضح لنا دواعي تصفية الرجل داخل مكتب الحزب الذي أدار منه الحرب ضد الوجود الفلسطيني والدور السوري. ومن جملة ما ورد في ذلك الخطاب قوله: «لا وصاية ولا انتداب. لا تبعية واحتلال. لا ضغط ولا إكراه، وتنتهي مرحلة الاستضعاف. لا تدخُّل في شؤون لبنان الداخلية. لا غريب يخرج على القانون. لا طارئ يستوطن البلاد. لا فروع لأحزاب مستورَدة. لا أمن مستعار. إن كل القوات الغريبة الموجودة داخل الأراضي اللبنانية مدعوة إلى الانسحاب ليتولى الجيش اللبناني بمعاونة أجهزة الأمن اللبنانية بسْط سلطة الدولة وتوفير الأمن على طول حدود الوطن، بحيث تكون حدودنا مصدر طمأنينة وسياج سلام لجيراننا ومظهر سيادة لاستقلالنا..». وهذا الكلام كان الرئيس السَلَف إلياس سركيس هو ما يتمنى لو يستطيع قوله ولعله من أجل ذلك لم يُخفِ ابتهاجه عندما أُبلغ بنتيجة انتخاب بشير الجميل فقال: «مَن كان يصدِّق. بشير الجميل رئيس للجمهورية وياسر عرفات على وشك مغادرة بيروت. الله أكبر. لقد نجا لبنان. إنها معجزة». لكن قراءة سركيس للأمر خالفت قوله هذا، ذلك أن المعجزة لم تحدث، وها هو لبنان غارق في خضم الارتباكات.

ما جرى بعد اغتيال بشير الجميل وتعويض العائلة وما تمثِّل مسيحيا وإقليميا بانتخاب شقيقه أمين رئيسا للجمهورية، كان الحكم عبارة عن إدارة أزمة، وكان الرؤساء الثلاثة: رئيس البرلمان ورئيس الحكومة إلى جانب رئيس الجمهورية مجرد مدراء للبنان المريض المستمر انهيارا ونزْفا. ثم جاء الحل الواقعي من خلال اتفاق الطائف الذي ما كان ليُنجَز على غير اليد السعودية ونخوة الملك فهد بن عبد العزيز وحوله إخوانه ولي العهد عبد الله ووزير الدفاع سلطان وأمير الرياض سلمان ووزير الخارجية سعود. وهؤلاء كانوا مثل الطاقم الطبي الذي يقوم بإجراء عملية فصل توأمين. وبالنسبة إلى الموضوع اللبناني كان الأمر أكثر تعقيدا.

بعد الاتفاق في الطائف كان لا بد، وقد تمّ انتخاب إلياس الهراوي رئيسا للجمهورية، من استكمال عملية تثبيت دعائم الشرعية اللبنانية. وبعد انتخابات أنجزتها حكومة ترأسها رشيد الصلح الذي أنصف نفسه بالقول في بيان الاستقالة يوم الخميس 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1992 «إن من بين إنجازات حكومتي أنها أجرت الانتخابات النيابية العامة بعد توقُّف عن إجرائها استمر عشرين عاما، وتمّ ذلك في جو من الحرية والحياد التاميْن». وبعد خمسة أيام (الثلاثاء 20 أكتوبر) تم انتخاب نبيه بري رئيسا لمجلس النواب بأكثرية 105 أصوات مقابل 14 صوتا نالها منافسه (شكليا وليس مبارزة) محمد يوسف بيضون ووُجدت خمس أوراق بيضاء إلى جانب ورقة سادسة اعتبرت ملغاة. بعد ذلك بدأت التكهنات حول مَن سيشكل الحكومة. وهنا بدأ «العصر السياسي الحريري» إذا جازت التسمية وبدأت ظاهرة «الترويكا» التي تحكم لبنان. وبعد التشاور وصدور إيحاءات من عبد الحليم خدَّام لمصلحة التكليف طلب الهراوي من رفيق الحريري يوم الخميس 22 أكتوبر تشكيل «حكومة متجانسة ومتضامنة بكل معنى الكلمة وأن تتألف من عناصر توحي بالثقة وبنظافة الكف وبالكفاءة والاختصاص».

لم يلق الحريري الأب مشقة ما دام الضوء الأخضر السوري ساطعا. وبعد زيارة إلى دمشق يوم الجمعة 30 أكتوبر تشاور خلالها مع خدَّام في أسماء الوزراء أذاع في اليوم التالي (31 أكتوبر) أسماء أعضاء حكومته والحقائب التي أسندها إلى كل وزير مراعيا مسألة الكفاءة مقدِّما للمرة الأولى مستشاره المالي فؤاد السنيورة كوزير دولة محتفظا لنفسه بوزارة المال إلى جانب رئاسة الحكومة.

بعد سبع عشرة سنة وعقب سنوات من المعاناة عاشها رفيق الحريري الرئيس المعارض، وبلوغ المأساة ذروتها بتفجير موكب الرجل الذي لم يكتمل طموحه في إعمار الوطن تتوالى التطورات والتداعيات ويستأنف الحريري الابن سعد الدين المسيرة السياسية ويفوز عن حق بإسناد مهمة تشكيل حكومة معتمدا على أنه قطب الأكثرية النيابية لكن ثقته بالإنجاز كانت أعلى بكثير من درجة استيعاب واقع الحال السياسي في لبنان، كما أن قراءته لخريطة مراكز القوى وارتباطاتها لم تأخذ في الاعتبار أنه من دون أن يفعل ما فعله العماد ميشال سليمان قبل أن يترأس ثم مباشرة بعد الترؤس عندما زار دمشق ربما بغرض تهدئة المشاعر السورية التي لم تبرد بعد نتيجة الانسحاب الاضطراري من لبنان وربما كبادرة شكر للرئيس بشَّار على موقف سوري سابق قضى بتزكية سورية لكي يكون ميشال سليمان وليس أي ضابط ماروني آخر وزيرا للدفاع وبذلك فإنه لولا هذه التزكية التي لقيت تجاوب الرئيس إميل لحود بطبيعة الحال لما كان للعماد سليمان أن يصبح تلقائيا هو رئيس البلاد.

كان سعد الدين الحريري مطمئنا إلى أن اندفاعه في اتجاه تجديد رئاسة نبيه بري للبرلمان لا بد سيقابله وقفة من جانب الرئيس بري معه. كما كان مطمئنا إلى أن اندفاعه في اتجاه تحقيق الغلبة لترئيس العماد ميشال سليمان لا بد ستقابله وقفة من جانب رئيس الجمهورية معه وفي الحالتين ضمن الأصول الدستورية. وإلى ذلك كان مطمئنا إلى أن خطوطه الأمامية والخلفية عند التشكيل آمنة ومستقرة وبالذات الخط الذي يتولاه الحليف وليد جنبلاط.

على هذا الأساس بدأ التشاور ولم يترك بابا إلاّ وطرقه لكن الصدمات توالت صدمة تلو أخرى. فالذين ظن أنهم سيلتفون حوله التفوا عليه. وليد جنبلاط انتفض من دون سابق تمهيد، نبيه بري صام قلبه مع سعد الدين الحريري لكن حذَرَه من العماد ميشال عون لا يرقى، مراعاة لـ «حزب الله»، إلى درجة تغليب المشاعر القلبية على مقتضيات التحالف وعلى قاعدة أن ميشال عون حليف لـ «حزب الله» وما دام بري هو شريك السيد حسن نصر الله في زعامة الطائفة الشيعية فإن حليف الشريك يصبح شريكا معه. ميشال سليمان يوزع المراضاة في أكثر من اتجاه وهكذا احتمى سعد الدين الحريري بالدستور الذي هو مع الأسف على هامش المزاج السياسي في لبنان. مكايدة مِن هنا واستفزاز مِن هناك وخيبة أمل بالحليف الجنبلاطي الذي وصل إلى مرحلة أنه لم يعد يتحمل نظرة الناس بأنه يسير في موكب سعد الدين الحريري وأنه بالتالي ليس الزعيم السياسي كما كان عليه والده المرحوم الشهيد كمال جنبلاط وإنما هو فرع من شجرة الزعامة الحريرية.

وفي لحظة يأس من هذا الذي يحدث، وقبل ساعات من التقاء التسعات الثلاث: يوم 9 من شهر 9 من عام 2009 توجَّه إلى المقر الصيفي لرئيس الجمهورية ميشال سليمان وقدَّم له لائحة بأعضاء الحكومة تتسم بالتشاطر إلاّ أنها واقعية في حال كانت الأطياف السياسية تريد للبنان حكومة تدير شؤونه قبل أن تقع الفأس على الرأس وربما قبل أن يقتحم فيروس إنفلونزا الخنازير الأكثرية والأقلية على حد سواء.

واكتشف سعد الدين الحريري أن اعتذاره ليس الأول من نوعه فقد سبقه خلال ثلاثة وخمسين عاما عدة اعتذارات بدأت عام 1945 باعتذار رئيس الحكومة المرحوم عبد الحميد كرامي (والد الرئيس الشهيد المرحوم رشيد كرامي والرئيس عمر) وكان آخرها وليس أخيرها عام 1998 عندما اعتذر والده الرئيس رفيق الحريري بسبب مشاكسات ونوايا الرئيس السابق إميل لحود. وبين هذيْن الاعتذاريْن كان هنالك اعتذار رئيس الحكومة المرحوم الدكتور أمين الحافظ عام 1973 وتلاه في العام 1974 اعتذار رئيس الحكومة صائب سلام إلى أن جاء الاعتذار السريع للرئيس المكلَّف تقي الدين الصلح الذي كان الفارق الزمني بين تكليفه واعتذاره نصف المدة التي استغرقها تكليف سعد الدين الحريري ثم الاعتذار مباشرة.

ويبقى القول إن ثلاثة أقطاب كان في استطاعتهم المساعدة على أن تأخذ الصيغة التي انتهى إليها سعد الدين الحريري فرصتها في القبول. لكن حسابات الثلاثة (الرئيس ميشال سليمان والرئيس نبيه بري والأستاذ وليد جنبلاط) كانت تلتقي حول أمر يُقال بصيغة التساؤل: كيف سيشكَّل سعد الدين الحريري حكومة وهو متردد في أمر التوجه إلى دمشق؟ وهل كان في مقدور والده أن يشكَّل الحكومة الأولى له في عهد الرئيس الهراوي والتي سبق أن أشرنا إليها لو أنه لم يذهب الجمعة إلى دمشق ليعلن السبت عن الحكومة.

وهكذا فإن سعد الدين الحريري أمام خياريْن أحلاهما مُر: إما زيارة لا يرتاح لها ضميريا وإما رئاسة تُدرج اسمه في نادي رؤساء الحكومات.

على كل حال قبل الحريري التكليف مرة ثانية، على أمل أن يوفق في إنجاز المهمة التي استشكلت عليه إلى درجة الاعتذار عنها في المرة الأولى.

يبقى أيضا أن لبنان الديمقراطي سيبقى محكوما بدكتاتورية التعطيل ما لم تقرر الدول الكبرى التداعي إلى مؤتمر يناقش فيه أمر هذا الوطن وأمر الوطن الفلسطيني المأمول استنباطه وتتفق هذه الدول على وضعْ الوطنيْن الاثنيْن في خانة الحياد وبإدارة دولية سياسية تقيه شرور العصبيات التي تكاد تتلف أعصاب الناس.