قبلات حتى الموت

TT

صديقة مقيمة في دولة خليجية تروي بأنها أصيبت هي وأولادها بإنفلونزا خنازير «خفيف الدم»، «ظريف العوارض»، «سريع وعابر»، وبأن كل ما يقال عن هذا المرض مجرد إشاعات مغرضة. صديقة أخرى في دولة خليجية ثانية تروي أيضا أنها بمجرد أن راجعت الطبيب بسبب ارتفاع حرارة ولديها، وظهور أعراض إنفلونزا عليهما، أعطيا «التاميفلو» الشهير وتماثلا للشفاء خلال يومين. وتروي لي هذه الأم أن الطبيب المعاين كان يسعل سعالا شديدا ويعطس، وهو يخبرها، أن ليس من المهم التأكد من إصابة ولديها بإنفلونزا الخنازير، فعدد المراجعين يوميا، وتظهر عليهم علامات الإنفلونزا يصل المئات، وإمكانية إجراء الفحص المخبري، لهذا العدد الكبير، للتأكد من نوع الإنفلونزا بات من سابع المستحيلات، وكل انتظار يعني، إمكانية تدهور حالة المرضى. الصديقتان لا تعرفان اليوم، إن كان ما أصاب عائلتيهما هو بالفعل ذاك المرض الذي طبقت شهرته الآفاق، أم هو عارض بسيط. لكن الأكيد أن الرعب بلغ مداه، والأطباء يعتبرون «التاميفلو» علاجا للجميع، ونحن لا نزال في أول موسم البرد، فكم من علب «التاميفلو» سيبتلع المرضى حتى نهاية الموجة الأولى، علما بأن ثمة من يحذر من موجة ثانية. وهل سيبقى لهذا المضاد «المنقذ الوحيد» من فاعلية على أجسادنا إن نحن بالغنا في استعماله؟

الفوضى عارمة، المعلومات متضاربة، وزارات الصحة العربية، لا تعرف بالضرورة عدد المرضى الحقيقيين، من أولئك الذين تمت معالجتهم وقائيا، رغم إظهارها عكس ذلك. طبيب يخبرني، أن الالتباس في التشخيص السريري هو سيد الموقف. التمييز بين إنفلونزا وأخرى في الأيام الأولى ليس بديهيا، وانتظار تطور الأعراض ليس مأمونا، والفحص المخبري ليس متوفرا في كل مكان، ولأعداد وفيرة من المشكوك بأمرهم.

أسوأ من ذلك أن الأميركيين اكتشفوا، منذ أيام قليلة فقط، أن المرضى، يحملون الفيروسات حيوية في دمائهم 12 يوما، أحيانا، بعد تماثلهم للشفاء. وجرت العادة أن يعود المصاب إلى عمله بمجرد أن تزول الأعراض. صفعة جديدة للأبحاث العلمية التي تكتشف قصورها، والبشرية لم تكن تدرك سببا لهذه السرعة الصاروخية للعدوى. الفوضى العربية أمام المرض كبيرة، لكن العالم كله في حيرة من أمره. ففرق كبير بين الكلام عن سهولة العلاج حين يكون الجسد شابا وفتيا والإعلان عن موت شخص في السادسة والعشرين في فرنسا، بعد أيام فقط من العدوى، وهو لا يعاني أي علة كانت تستدعي تعقيدات تودي به. الشركات الكبرى التي طلبت ملايين الكمامات لحماية موظفيها، تتفاجأ بأن أغشية العيون موضع آخر، لانتقال الفيروسات القاتلة. الوزارات الأوروبية تفكر بجدية تامة. وزارة العمل الفرنسية أصدرت تعميمين مهمتهما تنظيم العمل وحماية الموظفين في حالة انتشار الوباء بين عدد كبير من الموظفين في المؤسسة الواحدة.

احتياطات كبرى تتخذ أيضا في المحاكم والسجون، مع رغبة في تحويل المحاكمات إلى جلسات مغلقة، وتغيير مدة الحبس الاحترازي. كل المؤشرات تدل على أن ثمة من يتخذ الأمر بجدية عالية لا تضاهيها إجراءات عربية مماثلة. المدارس العربية لم تفتح أبوابها بعد، الحج على الأبواب. والحجيج سيعودون إلينا بعد اختلاط نموذجي، لا مثيل له، والعيد بعد أيام. العرب لم يترفعوا بعد حتى عن عادة التقبيل والأخذ بالأحضان. حقا، ومن الحب ما قتل. قبلات العيد قد تكون سامة، وأشرس من لدغ الأفعى. الاعتماد على وصول الطعم المضاد للمرض إلى بعض أنحاء العالم المدلل في شهر أكتوبر لن يكون حلا. من الآن الأطباء الفرنسيون الذين اعتبروا أول المستحقين للطعم لحمايتهم من العدوى، رفض عدد لا بأس به منهم هذا العرض السخي من سلطاتهم الضنينة بصحتهم. هؤلاء هم أعلم الناس بأهمية الطعم، لكنهم يؤكدون أن المصل الجديد لم يختبر بالقدر الكافي، وأعراضه الجانبية غير مأمونة العواقب، كما أنه لا يقي من الإصابة بالضرورة.

أطباء فرنسيون يرفضون إذن، أن يكونوا «فئران اختبار»، كما يقولون، وباحثون لا ينكرون بأن البعض قد لا يحتمل مادة أدخلت على أحد أنواع هذه الطعوم، ولذا وجب الحذر والاحتياط. 52 ألف مواطن فرنسي راجعوا العيادات الأسبوع الماضي ويشكون من أعراض إنفلونزا، 31 ألفا كان عدد المراجعين في الأسبوع الذي سبقه، هذا يعني أن الخوف يتصاعد ويأكل الناس فيجعلهم يذهبون إلى العيادات عند أول عطسة، بينما تصر بعض الدول العربية على أنها تعرف تماما عدد المصابين فيها بإنفلونزا الخنازير، وأنها مسيطرة على الوضع تماما، فيما الأطباء يقولون في السر غير ذلك، ويعترفون أن المجهول أكثر من المعلوم. ثمة قانون واضح في بعض الدول الأوروبية اليوم بأن من يتسبب بالعدوى لأحد زملائه في العمل قصدا، وهو يعرف أنه مصاب، قد يصل عقابه إلى حد الفصل من العمل، بينما المصابون العرب يسرحون ويمرحون، مع علمهم التام بالأذية التي يتسببون بها للآخرين، دون أن يوخز ضميرهم أحد. ومع التمنيات بأن تكون قضية إنفلونزا الخنازير مجرد قصة مضخمة كما يشتهي البعض، إلا أن التضخيم الحقيقي هو في الاستخفاف العربي بتزويد المواطنين بالمعلومات الصحيحة حول ما يجري على الأرض، ومساعدتهم في فهم ما يدور حولهم.

فمنذ أن تفاقمت الأعداد لم نعد نرى وزير الصحة اللبناني، فيما الكويت تعتبر ما قاله استشاري المنظمة البريطانية لحماية الصحة، حول إمكانية إصابة ثلث الكويتيين هو مجرد وجهة نظر. قد يكون الأمر صحيحا، لكن المعلومات حول ما يجري على الأرض ضئيلة إلى حد مريب، حتى أخشى أن يصدق الكثيرون صديقتي الحمقاء التي تشيع بأن «إنفلونزا الخنازير» هو من «أظرف» الأمراض التي قابلتها في حياتها.