حان استئناف الحوار الوطني

TT

قديما قيل: «إن شئت أن تطاع فاطلب المستطاع».. وحكومة «المشاركة الوطنية» في لبنان لا تبدو ضمن هذا المستطاع، ليس لأن «الصهر» يريد الاستيزار بل لأن الدهر لم يقنع اللبنانيين، بعد، بحتمية وحدة المصير.

كيف يمكن لبلد اسُتحدث كيانه الجغرافي في الخارج (اتفاقية سايكس بيكو) ووضع دستوره في الخارج (اتفاق الطائف) وشكلت حكومته في الخارج (تفاهم الدوحة) أن يكون «وطنا» لا شركة مساهمة تختلط فيها الأسهم الخارجية بالداخلية؟

لبنان التاريخي قد تعود جذوره إلى الإمارة المعنية في القرن السادس عشر. أما لبنان الملل والنحل والمذاهب والطوائف ـ الذي ورثناه عن الأجداد ـ فيعود وجوده الجغرافي إلى نظام القائمقاميتين (1840) ومن بعده المتصرفية (1860).. أي أنه مدين للخارج بوجوده الجغرافي إن لم يكن صنيعة الأجنبي.

وعليه، من المكابرة اعتبار عقدة تشكيل الحكومة اللبنانية عقدة داخلية يمكن حلها بـ«تنازل» من هنا و«تبويس لحى» من هناك. ما يشهده لبنان اليوم ليس أزمة حكم ولا أزمة نظام بقدر ما هو أزمة «كيان» جغرافي أصبح عاجزا عن احتواء التحولات الديمغرافية المتسارعة بداخله، وما تستتبعه من تبدلات في قيمة «أسهم» المشاركة الخارجية فيه مقارنة بالأسهم الداخلية.

هل يجوز في بلد أكثريته البرلمانية المنتخبة بالاقتراع المباشر ممنوعة من الحكم وأقليته البرلمانية ممنوعة، بالمقابل، من المعارضة، إطلاق صفة الديمقراطية على آلية حكمه حتى وإن اعتبر البعض أن إقرانها «بالتوافقية» يمنحها أسبابا تخفيفية لقصورها الفاضح في إنتاج آلية حكم عملانية – ولا نقول نظام حكم عملاني ـ لتعايش الأقليات المذهبية والإثنية على أرض لبنان؟

أضعف الإيمان، في حالة كهذه، ليس إشغال الآخرين بمشاكل لبنان السياسية عند كل استحقاق انتخابي، بل البحث جديا عن نظام سياسي يكون مقبولا من جميع «الأقليات» اللبنانية ويشكل ضمانة لكل شرائحه المذهبية ـ طالما لا تزال «المذاهبية» قاعدة العمل السياسي والتمثيل السياسي معا.

قد لا يكون من المبالغة وصف لبنان بالكيان العليل فقد بات يستحق، عن جدارة، تسمية «مريض الشرق الأوسط»، تماما كما استحقت الإمبراطورية العثمانية لقب «مريض أوروبا» في القرن التاسع عشر.

لبنان اليوم بأمس الحاجة إلى عملية جراحية جذرية، ولكن على أيدي نطاسيين من الداخل. لذلك تبدو العودة إلى استئناف ما سمي بطاولة الحوار الوطني المدخل الأسلم «لتشريح» علل الجسم اللبناني وطرح هواجس أقلياته المذهبية، بالموضوعية والجدية التي تفترضهما المرحلة.

ربما كان تأجيل مداولات «طاولة الحوار الوطني» من شهر إلى شهر.. ومن ثم إلى ما بعد الانتخابات النيابية أحد أسباب تعثر الاتفاق على تشكيل الحكومة الجديدة بعد أن أثبتت أحداث 7 أيار (اجتياح بيروت) أن الوضع اللبناني يتطلب تركيزا ملحا على القضايا الخلافية، وفي مقدمتها ما سمي ـ دبلوماسيا ـ «بالاستراتيجية الدفاعية».

أولوية المرحلة التي يمر بها لبنان تتطلب الاتفاق على هويته «السياسية» وطبيعة علاقته المميزة مع سورية، بحيث لا تطغى الانعزالية على الأولى ولا العمالة على الثانية.

ولكن إعادة «لبننة» صيغة التعايش اللبناني تتوقف على قابلية أقطاب طاولة الحوار على تحقيق تلك النقلة النوعية التي تفصل بين السياسي العادي ورجل الدولة، وبالتالي التحول إلى «الآباء المؤسسين» للوطن، والقادرين على الخروج من حوارهم بإجماع على الأساسيات التي عليها تبنى الأوطان.

بلوغ هكذا إجماع قد لا يعني، بالضرورة، وضع حد للتدخل الخارجي في الشأن اللبناني، خصوصا أنه تدخل قائم بحكم واقع لبنان الـ«جيواستراتيجي». ولكنه قد يضع حدا لمسيرة تشرذمه السياسي والمذهبي التي تفتح الباب واسعا للتدخل الخارجي في كل شاردة وواردة من شؤونه.. بما فيها تشكيل الحكومة.