التوجه الأميركي والتوتُّر مع سورية

TT

تعدَّدت الروايات في مَنْ هو الطرف الإقليمي الذي عطَّل تشكيل حكومة ائتلافٍ وطني في لبنان. وغلّبت أكثرية المراقبين الاحتمال الإيراني؛ وبخاصةٍ أنّ إيران على مشارف مفاوضات صعبةٍ مع الولايات المتحدة والعالَم الغربي. وزاد هؤلاء اقتناعاً إقبال أوروبيين مهمين على الدفاع عن سورية (الفرنسيون مَثَلا)، وإصرار آخرين على أنهم يجهلون وجودَ أي دورٍ سلبي لسورية في لبنان بعد انتخابات رئيس الجمهورية الجديد! وعندما عرضت قطر التفكير في لقاءٍ جديدٍ بالدوحة على السوريين لتسهيل تشكيل الحكومة؛ قال السوريون: استشيروا السعودية أولا؛ فإنْ وافقتْ فلا مانع. ويستشهد المراقبون المتعددون بذلك على أنّ العلاقات بين السعودية وسورية لا بأس بها حتى الآن، ولا تريد سورية التورُّط في أمرٍ قد يُغضب السعودية عليها، بعد مصالحات الكويت والدوحة! وهذا كلُّه يدلُّ على أنّ سورية لا تزال في موقفٍ هو أدنى إلى التصالح مع السعودية. أمّا مع الولايات المتحدة؛ فإنّ شهر العَسَل الذي كان محتفى به وشواهده كثرة الوفود والتأكيدات السورية «للعلاقة الحسنة»؛ شهر العسل هذا قد انقضى؛ لكنْ لا حاجة للخوف والتوجس؛ فإنّ الاتصالات بين الطرفين مستمرة وإن لم يأت ميتشل في جولته بالمنطقة، إلى دمشق هذه المرة.

بيد أنّ الأيام الثلاثة الأخيرة، كشفت عن اختلافاتٍ عميقةٍ بين الأميركيين والسوريين، وأنّ السوريين في مأزق لأنّ طهران ما عادت تأخذ عروضَهم للتحالُف الاستراتيجي مأخذ الجدّ؛ إضافةً إلى أنّ رئيس الوزراء العراقي المالكي الذي أثار أزمةً مع سورية بسبب الإرهاب، إنما استند في ذلك إلى طهران وواشنطن معاً وإن اختلفت الأهداف. ومن الواضح أنّ الذي يجري أو لا يجري بين واشنطن ودمشق لا علاقة له بتشكيل الحكومة من جانب واشنطن على الأقل. لكنّ المشهد الشرق أوسطي مترابط، أو مثل الأواني المستطرَقة. ولا تزال دمشق تعتقد أنها تستطيع التأثير على واشنطن وغيرها بأوراق من ضمنها الساحة اللبنانية.

ولنبدأ بالساحة اللبنانية، والدور الذي لعبته دمشق في تعطيل تشكيل حكومة التكليف الأول، وتأثيراتها على التكليف الحالي (الثاني) لسعد الحريري. فالمعروف أنّ الرئيس المكلَّف كان قد بدأ تكليفه بالاتفاق مع حزب الله على الصيغة كما سُمّيت يومَها وهي 15 وزيرا للأكثرية، و10 للمعارضة، و5 محايدين لرئيس الجمهورية. وفي حين بدا الجنرال عون هو العقبة الرئيسية أمام عدم تشكيل الحكومة بمطالبه غير المعقولة، أقبل الرئيس بري والنائب وليد جنبلاط على الإمساك بالعصا من الوسط لتسهيل تشكيل الحكومة؛ وبخاصةٍ أنّ بري في الاستشارات الأولى كان قد سمّى الحريري للرئاسة. وبدأت عملية تنافُس بين سورية وحزب الله على الجنرال عون، أيّهما يدعمه أكثر لتصعيب تشكيل الحكومة. ثم انتهى الأمر بأن وافق سعد الحريري (من خلال رئيس الجمهورية جزئياً) على 90% من مطالب عون. لكنْ في النهاية ما وافق عون ولا حركة أمل وحزب الله. ولذلك اعتذر الرئيس المكلَّف، وسعى لتكليفٍ ثانٍ لا يكونُ فيه مقيَّد اليدين بالصيغة ولا بغيرها. وعشية الاعتذار قال الرئيس بري إنه سيدعم التكليف الثاني لسعد الحريري. لكنْ خلال 24 ساعة انقلب موقفُهُ (بعد أن كان النائب علي حسن خليل قد زار سورية يوم السبت أو الأحد الماضيين) وصار أكثر سلبيةً من حزب الله. والمفهوم أيضا أنّه بسبب هذا الموقف المُفاجئ من برّي ما استطاع النائب جنبلاط أن يظلَّ معه، وأَيَّد تكليف الحريري من جديد.

على هذه الجبهة إذن عادت سورية (بالإضافة طبعاً لإيران) للعب دور القوة والتنفُّذ رجاءَ أن تتنبَّه لأهميتها الولاياتُ المتحدة والسعودية. لكنّ الولايات المتحدة ما عادت بهذا الوارد، ليس بسبب لبنان؛ بل بسبب العراق، والموقف السوري من عملية السلام. فقد كان الأميركيون يريدون من سورية تسهيل عملية المصالحة بالعراق بالتوقُّف عن دعم الذين يقومون بعمليات فيه، والتوقف عن إيواء ودعم أعداء النظام العراقي الجديد، وعقد اتفاق أمني ثنائي أو ثُلاثي. كما كانوا يريدون منها أن تتوقف عن الضغط على حماس، لكي تسير في الاتفاق المصري المقترح بينها وبين فتح. وما استجابت سورية لشيء من ذلك؛ ولذا ما انعقد الاتفاق الأمني، واشتعلت أزمة بين سورية والعراق، وذهب الرئيس الأسد إلى طهران عارضاً تحالُفاً رُباعياً معها (يضمه إلى إيران وتركيا والعراق!)، وتوقف الأميركيون عن إرسال السفير الأميركي إلى سورية، ولن يزور المبعوث لعملية السلام جورج ميتشل سورية في جولته الحالية التي زار فيها سائر الأطراف (بما في ذلك لبنان).

وانقسم الغربيون محتارين من الموقف السوري. أما الإسبان والإيطاليون فقد صمتوا، لكنهم لا يزالون يميلون لعقد اتفاقٍ بين سورية والاتحاد الأوروبي أواخر هذا العام. في حين تحمَّس البريطانيون والألمان ـ إلى جانب الأميركيين ـ ضد سورية. وتحمَّس الفرنسيون بالاتجاه المُعاكس لنُصرة سورية شأنهم في ذلك شأن قطر وتركيا، اللتين تُصران على ضرورة احتضان سورية. وتمضي فرنسا أبعد من ذلك فتُركّز هجومها على طهران وتتهمها بوجود برنامج نووي عسكري لديها، وأنها هي التي تُثير التوتر في العراق وبين فتح وحماس، كما تعطّل تشكيل الحكومة اللبنانية؛ وكُلُّ ذلك بمعزل عن سورية الودود والمتعاونة!

هناك إذن أزمة ثقةٍ عميقةٍ بين واشنطن وسورية؛ وإن تكن تركيا لم تيأسْ من إعادة الوصْل بينهما، وبين سورية وإسرائيل. لكنّ المراقبين ـ ومن ضمنهم أعضاء في إدارة أوباما، وآخرون في الاتحاد الأوروبي ـ مختلفون، في سبب عدم الحسْم السوري، والإصرار على التذكير بالمرحلة الماضية أو بنماذج السلوك السوري السابقة. أي العنف والتعطيل في المحيط والابتزاز بذلك بحيث تُقبلُ سائر الأطراف على استرضاء النظام. هناك من يرى أنّ واشنطن ـ والسعودية إلى حدٍ ما ـ ما لبَّتا الشروط والرغبات السورية بحيث تستطيع سورية التظاهُر بمظهر المنتصر، والتحول إلى الجهة الأُخرى، على أساس أن تحوُّلَها سيُعيدُ إليها الجولان. وهناك من يرى أنّ سورية لا تستطيعُ الحِراك لأنها مخترقةٌ ومطوَّقةً من طهران. ولا ضمانةَ للنظام السوري الآن غير تركيا؛ ولذلك يتهالك النظام السوري في الاقتراب من تركيا والاستظلال بها. وعندما انفجرت الأزمة بين العراق وسورية؛ جاء وزيرا الخارجية التركي والإيراني للوساطة. أما الإيراني فلم يَعُدْ؛ في حين مضى التركي شرقاً وغرباً دفاعاً عن النظام لدى العراق وطهران ومصر وإسرائيل.. الخ، وها هو يجمع العراقيين والسوريين بأنقرة محاولا تهدئة الخلاف ـ ثم يزور الرئيس الأسد تركيا ويعقدُ معها تحالُفاً استراتيجياً ـ المفروض أنه انعقد من سنوات ـ ويقول الطرفان إنهما يأملان أن ينضمَّ إليه آخرون!

ويتساءل الأميركيون الآن، ومعهم بعضُ الأوروبيين، والروس: هل يريد النظام السوري بالفعل استرداد الجولان؟ إذا كان يريد ذلك بالفعل فلماذا هذه الطُرُق الملتوية التي مضى زمانُها، مثل إثارة الاضطراب هنا وهناك لدى الجيران؟ ولماذا لا يقاربُ النظام السوري المشكلة بشكلٍ مباشرٍ من طريق الدخول مع الأميركيين في مفاوضاتٍ عميقةٍ، إن لم يكن يريد أن يدخل تحت مظلة المبادرة العربية؟ ثم إنّ الدليل الأَوضح على تغيُّر الزمان أنّ المالكي الذي تردد سنتين وأكثر في مصارحة سورية بالمشكلات، ذهب الآن إلى الإعلان عن القطيعة، واحتاج الأمر إلى وساطةٍ، في حين كانت سورية تستطيع الاستغناءَ عن تكتيكات ابتزاز الأشقاء، من أجل استجلاب عروض الإرضاء من الخصوم، ومن الدول الكبرى؟!

وأيا يكن الأمر؛ فإنّ الأميركيين يتجهون للتركيز على المسار الفلسطيني وحده، لأنّ سورية لم تَحْزِمْ أمرها بشأْن العمل على استعادة الجولان. أما الملفّات الأُخرى، والمتعلقة بالتدخل في شؤون الجوار، فترى الولايات المتحدة أن تلك الدول هي دولٌ ذات سيادة، وتستطيع حماية نفسها دونما حاجةٍ للتدخل الخارجي. وتبرزُ الآن أَولويةٌ أُخرى لدى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي تتصل بالتفاوُض مع إيران على ملفّاتٍ أهمُّها النووي. والأُمورُ تتجهُ على أي حال للتوتر والتصعيد من سائر الجهات، والتوتر بين سورية والولايات المتحدة داخلٌ في هذه الموجة المتصاعدة.