أزمة تأليف حكومة أم أزمة نظام؟ أم محنة وطن؟

TT

مر لبنان، منذ استقلاله، بأكثر من أزمة حكومية ومحنة سياسية حادة، ذات خلفية طائفية، ولكنه كان يخرج منها بفضل حكمة قادته السياسيين وتغليبهم المصلحة الوطنية على مصالحهم الشخصية أو الحزبية. وأيضا بفضل استخدامهم الطرق والوسائل الدستورية المتوفرة. وهي: استقالة رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة والوزراء، أو إقالتهم، حل المجلس النيابي، الدعوة إلى انتخابات نيابية جديدة. ولا ننس توسط الدول العربية الشقيقة لمساعدته على صيغة للخروج من مأزقه.

أما اليوم ، فنحن أمام أزمة من نوع جديد. وليس في يد السلطات المسؤولة الوسائل الدستورية لكسر حلقتها المفرغة. فرئيس الجمهورية غير مخول دستوريا لإقالة الحكومة وتعيين حكومة ورئيسها، ولا لحل المجلس النيابي. بالإضافة إلى أن الأقلية النيابية المعارضة لا تعترف بحق الأكثرية النيابية في تأليف «حكومة ـ أكثرية نيابية»، متحججة بأن هذا مخالف لـ«ميثاق العيش المشترك»، ومهددة باللجوء إلى الشارع والعنف إذا لم ترضخ الأكثرية النيابية، ورئيس الحكومة المكلف ورئيس الجمهورية، لمطالبها.

ومن هنا يبرز السؤال الحقيقي: هل نحن أمام أزمة سياسية؟ أم أمام أزمة نظام، أم أزمة وطن تنعكس عليه كل أزمات المنطقة؟ ما من لبناني إلا ويعرف الجواب. أي إن منطلقات وأبعاد هذه الأزمة متصلة بالمشروع الإيراني الشيعي في لبنان، وبإصرار دمشق على استعادة نفوذها أو سيطرتها على لبنان. وما من لبناني إلا ويعرف أن هذا التصلب في موقف الأقلية النيابية المعارضة، ونبرة التهديد في خطاب ممثليها، المتعارضة مع أبسط قواعد الديمقراطية البرلمانية، ما كانا ممكنين لو لم تكن مستندة إلى 70 ألف صاروخ وآلاف المسلحين المدربين الذين أثبتوا قدرتهم على احتلال العاصمة أو تعطيل الحياة التجارية، بل وتعطيل مؤسسات الدولة.

فالمشكلة، إذن، مرتبطة إقليميا، بدمشق وطهران، وداخليا بالتخطيط المشترك بين حزب الله والجنرال عون، للسيطرة على الحكم في لبنان أو على شله، بانتظار فرصة مواتية للوثوب عليه. ماذا في يد الأكثرية النيابية وفريق «14 آذار»، والرئيس المكلف سعد الحريري، من وسائل عملية لإحباط مشاريع المعارضة وإخراج لبنان من هذه الأزمة المتمادية منذ خروج القوات السورية من لبنان؟ الوسيلة الأولى هي الرضوخ لكل أو لثلاثة أرباع مطالب المعارضة. فقد يساعد ذلك على صدور مرسوم تأليف الحكومة. ولكن ماذا بعد؟ هل ستتمكن هذه الحكومة من وضع وتنفيذ برنامج اقتصادي وإصلاحي أو استراتيجية دفاعية أو حتى تعيينات إدارية يتفق عليه ممثلو الأكثرية والأقلية؟ الجواب معروف. فقيام حكومة «الائتلاف الوطني»، إن قامت، لا يعني سوى تأجيل انفجار أزمات قادمة وعنيفة. لا سيما إذا دفعت إلى تفجيرها تطورات سلبية في المنطقة، أو على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية.

الاحتمال الثاني هو تمسك الرئيس المكلف بالدستور وتشكيل حكومة من خارج اصطفاف «14 و8 آذار»، تتمثل فيها الطوائف بشخصيات غير حزبية. ولكن هذا يفترض موافقة رئيس الجمهورية، كما يعتبر مجاذفة لدى المثول أمام المجلس النيابي عند طرح الثقة بالحكومة. فقد يتلاقى نواب الأكثرية والأقلية في عدم منحها الثقة. ثم إن مثل هذه الحكومة، تقنوقراطية سميت أم حيادية، قد يصعب أو يستحيل عليها الحكم مع وجود القوى السياسية والحزبية، خارجها.

الاحتمال الثالث هو اعتذار سعد الحريري مرة أخرى عن التأليف. وبالتالي العودة إلى الاستشارات النيابية الملزمة. فمن الأرجح أن يعود نواب الأكثرية إلى تسمية الحريري. إلا إذا طلب منها الحريري ترشيح شخصية سنية أخرى غيره لا تضع سوريا العراقيل في وجهها. ولكن إذا قبل الحريري بهذه التضحية، من أجل إخراج لبنان من «الحلقة المفرغة»، فهل يقبل نواب الأكثرية؟ هل تقبل الطائفة السنية بذلك؟ وماذا يكون قد تبقى من اتفاق الطائف؟!

ذلك أنه لم يعد سرا أن حزب الله وعون، وإن اختلفت أماني وتطلعات قواعدهما الشعبية، يلتقيان عند نقطة مشتركة، ألا وهي نقض أو تعديل اتفاق الطائف، بقصد تحجيم دور رئيس الحكومة السني أو تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني.

ثمة احتمال رابع، وهو أن تبقى الأزمة مراوحة في مكانها شهرا وشهرين وربما عدة أشهر، بانتظار حدث إقليمي يدفع بها إلى باب الانفراج. ولم لا؟ فالروتين الحكومي والإدارات العامة لم تتوقف مع بقاء حكومة «تصريف الأعمال». ولا موسم الاصطياف ومهرجاناته تعطلت، ولا تدفق الودائع المالية على المصارف، ولا أسعار الأراضي والعقارات، تراجعت. أوَليس في ذلك دليل على أن لبنان يستطيع «العيش» من دون حكومة ائتلاف وطني تتحول إلى ميدان جديد للتناحر والتجاذب ولانطلاق الأزمات؟! ولتفجير أزمة كلما تطرق البحث في الأسباب الحقيقية العميقة لكل ما يحدث ونعني: سلاح حزب الله، والمحكمة الدولية، وسياسة إيران وسوريا في لبنان.

لقد قدم سعد الحريري أكثر من دليل على تمسكه بالوحدة الوطنية وبالدستور وباتفاق الطائف وبرغبته في قيام حكومة ائتلاف وطني. ولكن ليس هذا ما يريده الفريق الآخر.