المعارضة لا تنقض الوضوء

TT

خصص دافيد كاميرون، زعيم حزب المحافظين المعارض، مؤتمره الصحفي الشهري يوم الأربعاء لمهاجمة رئيس وزراء الحكومة العمالية، غوردون براون، ووصف تأكيداته بأن حكومته لن تخفض الميزانية لمواجهة الأزمة الاقتصادية بأنها خداع للمواطنين، بعد أن وزع علينا مساعدو كاميرون وثائق مسربة من وزارة المالية عن تخفيض 9.28 في المائة أو ما يقابل 60 مليار دولار سنويا. ورغم سؤال الصحفيين عما إذا كان يرى رئيس الوزراء «كاذبا»، فإن زعيم المعارضة لم يستخدم الكلمة وإنما أشار إلى مناقضة أرقام وزارة المالية لتصريحات رئيس الحكومة، فتهمة الكذب لا يوجهها الساسة لبعضهم البعض، وإذا استخدمها أحد في البرلمان يطرده رئيس الجلسة فورا.

ومثل رئيس الحكومة، يتبع زعيم المعارضة تقليد المؤتمر الصحفي الشهري. ويتحمل حزب المحافظين تكاليف مالية ليست بالبسيطة في دعوة الصحافة إلى مؤتمر رئيسه كاميرون الشهري، باعتباره رئيس وزراء حكومة الظل، ووزير ماليتها هو دافيد اوزبورون، ووزير خارجيتها هو وليام هيغ.

فحزب المعارضة في الديموقراطية يعني حكومة الظل التي ستتولى الوزارة إذا حصلت على أغلبية الأصوات في الانتخابات القادمة. واستجواب الصحافة ضروري لمعلومات الناخب البريطاني الذي سيعرف، إذا منح صوته في صناديق الاقتراع للمعارضة المحافظة، من سيكون رئيس الوزراء المقبل، ومن سيكون وزير المالية، وأيضا وزراء الحربية والخارجية والمعارف والداخلية والصحة وغيرها.

فالديموقراطية البريطانية، وهي الأقدم والأكثر تكاملا ونضجا في العالم، تلزم تقاليدها المعارضة بتكوين حكومة ظل بمجلس وزراء كامل، وميزانية مكتملة للتعليم والصحة والدفاع، بحيث يكون أمام الناخب خيارات واضحة يتحمل نتائجها عند الإدلاء بصوته في صناديق الاقتراع.

وتكرر يوم الأربعاء أسفي الشهري فلم أر في مؤتمر كاميرون أحدا من مئات الصحفيين العرب في لندن، التي فيها ست يوميات عربية بجانب الدوريات، ومراسلين لمعظم صحف بلدان الجامعة العربية.

ولأن الاقتصاد وإنقاص الميزانية، هو الآن جوهر المناظرات السياسية بين الحكومة والمعارضة، فإن خطط زعيمها، الذي يتوقع المراقبون أن يكون رئيس الوزراء القادم في رقم 10 داوننغ ستريت في غضون أشهر، ستؤثر على مليارات من الأموال العربية المستثمرة في بريطانيا، التي لا شك يقرأ أصحابها الصحف العربية.

ولا أدري سبب غياب صحفيين يرهقوننا يوميا في الفضائيات وأعمدة الصحف بتمنيهم تقليد الديموقراطية البريطانية في بلدانهم التي يدعون أنهم هجروها لغياب الديموقراطية.

فلماذا يضيعون فرصة شرح تفاصيل النظام البرلماني للقراء والمشاهدين العرب لإعلامهم أن المعارضة هي بديل للحكومة وليست أجساما شبه نائمة في مقاعدهم البرلمانية تقف فقط لتكفير الخصوم أو للصياح متصيدة خطأ للحكومة أو تنادي بشعارات كالاشتراكية هي الحل أو الإسلام هو الحل، دون تقديم ميزانية واضحة لإدارة البلاد عند تطبيق هذه الحلول.

هل السبب هو «أن من شب على أمر شاب عليه» وأغلبهم شب على أن الحكومة هي المصدر الوحيد للمعلومة خاصة في بلدان تجرم فيها «تجريم بالجيم» المعارضة فيمتد التعريف لاشعوريا في أذهانهم إلى اعتبار المعارضة في أي مكان من العالم «رجسا من عمل الشيطان» ينقض وضوء الالتزام الصحفي؟

وقد يكون الأمر مجرد كسل عن الاتصال بأحزاب المعارضة. لكن الكسل يسلب قراءهم حقوقهم المشروعة لأن الصحفي مثل صورة سفير معكوسة في مرآة.

فإذا كانت مهام السفير أن ينقل رسميا وإعلاميا إلى البريطانيين موقف بلده منهم في إطار المصالح المشتركة، وأحيانا المتناقضة، بطريقة واضحة يفهمها البريطانيون دبلوماسيون وصحفيون، فإن واجب مراسل الصحيفة العربية تجاه قرائه نقل مواقف الحكومة البريطانية، وشرح اتجاهات التيارات السياسة والشعبية المختلفة التي تؤثر في الرأي العام، وبالتالي في الصوت الانتخابي الذي سيؤثر في سياسة بريطانيا تجاه بلده.

وكثير من الصحفيين العرب شب في ثقافات سياسية تضع المعارضة في السجون أو في قائمة الاغتيالات أو التجاهل إعلاميا، وهذا ليس بعذر مقبول لأن من خصائص المراسل سرعة استيعاب الثقافة السياسية والاجتماعية لأي بلد يهبط به فما بالك ببريطانيا التي يصل إعلامها السياسي كافة أنحاء المعمورة.

وبريطانيا تقسيمها السياسي بسيط وواضح المعالم بين الحكومة والمعارضة ولا أشك لحظة واحدة في حرفية وذكاء الزملاء من مراسلي الصحف والفضائيات العربية، فلماذا إحجامهم عن تغطية أخبار الحزب الذي تشير استطلاعات الرأي إلى أنه سيكون الحكومة القادمة؟

لا أعتقد أن الزملاء العرب يفتقرون إلى مفردات التعبيرات البرلمانية أو الديموقراطية.

ولا شك في أنهم جزء من «مؤامرة» الأنظمة العربية غير الديموقراطية على مواطنيها، حيث يريدون حمايتهم، بحزام عفة فكري، من اختراق فيروس فكرة أن تتولى المعارضة ـ وليس الحكومة ـ الحكم عن طريق التصويت في صناديق الاقتراع.

وربما يقتنع المراسلون بأن أغلبية مواطني البلدان الأعضاء في منظومة الجامعة العربية مقسمون ما بين «ناكري الجميل»، و «الأغبياء» الذين لا يقدرون الفارق الثقافي بين الغرب «الكافر» ومصيره جهنم، وبين الشرق «المسلم» ومصيره الجنة.

وبالتالي فإن أفراد مساحة معتبرة لزعيم المعارضة في مؤتمره الشهري، هو أمر غير وطني يوسوس في عقول المؤمنين بأفكار شريرة كضرورة وجود معارضة تنافس الحكومة على إقناع المواطنين بأفضلية برنامجها لمصالحهم، وبميزانية أفضل للخدمات والتعليم أو من ناحية الضرائب المحصلة، أو على الأقل تعمل كصمام آمان في البرلمان يحد من إسراف الحكومة، أو تهورها بسياسات تضر بمصلحة الوطن.

هذه المعادلات والمفردات أشك في وجودها في القاموس الصحفي/السياسي للفضائيات العربية العنترية والصحف القومجية، وتقارير مراسليها خاصة أن معظم القراء والمشاهدين العرب لا يستشارون مقدما في اختيار السلعة الإعلامية الملائمة لمزاجهم.

وحسب المثل المصري «المياه تكدب الغطاس» سنرى في المؤتمر السنوي لحزب الحكومة (العمال) في مدينة برايتون الساحلية في الأسبوع المقبل، كم من الصحفيين العرب سجل اسمه في البرنامج لحضور جلسات المؤتمر، ولو على الأقل جلسات السياسة الخارجية والاقتصاد، التي سيناقش فيها الحزب الحاكم موقف بريطانيا من العراق، وفلسطين والدعم المادي والتبادل التجاري مع البلدان العربية؟

وسنقارن ذلك بإعداد من سيحضر منهم أمسية حفل العشاء الذي يقيمه السفراء العرب لرئيس الوزراء غوردون براون، ووزير خارجيته دافيد ميلليباند، ويبعث الصحفيون العرب، كل برسائل تلميع ومديح لسفير بلاده.

والاختبار نفسه سنطبقه على مشاركة الصحفيين العرب الشهر القادم في مؤتمر حزب المحافظين في مانشيستر التي بدأت منها الثورة الصناعية.

وحتى تعكس التقارير الأرضية الواقعية للصحفيين العرب في بريطانيا إيمانهم بالديموقراطية بتقديمهم النماذج العملية منهم للقراء العرب، فللأسف، لا يمكن أخذ كلماتهم عن الديموقراطية بجدية تعني أنهم بالفعل يؤمنون بما يكتبونه أو يهتفون به في الفضائيات.