إيران بين السياسي والثقافي

TT

خريف عام 2002، كان المراسلون الأجانب، بمن فيهم مراسلو الإعلام العربي، يعانون شحا في الأخبار السياسية.. كانت إيران تبدو وكأنها تنتظر ما سيحل بالعراق، فتعود أنديتها السياسية إلى تداول احتمالات المستقبل ـ خصوصا لجهة العلاقة (حوارا أو قطيعة) مع الولايات المتحدة ـ ويبقى كثيرون أو الأكثر في التيار الإصلاحي على رأيهم بضرورة الإسراع في هذا الحوار تجنبا لاستحقاقات مستقبلية صعبة وتتصل أساسا بضرورات التنمية الشاملة، ويجاهرون بخوفهم من أن تكون إيران من ضمن الاستهدافات الأميركية مع غيرها وأكثر من غيرها.

وينتبه المحافظون الإيرانيون إلى أهمية السجال مع الإصلاحيين في المسألة، ليعملوا على تعبئة جمهورهم في الاتجاه المضاد، وتشهد شوارع طهران وسائر المدن مظاهرات حاشدة، رافعة شعارها الذي بدا وكأنها قد هجرته منذ سنوات (الموت لأميركا ـ الموت لإسرائيل) في ذكرى استيلاء الطلبة الإيرانيين على السفارة الأميركية خريف 1979، إثر ما شاع بعد لقاء أعضاء في الحكومة الإيرانية، من الجبهة الوطنية وحركة تحرير إيران، مع بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي في الجزائر، ومن أن ذلك يصب في تعزيز الحصار الذي ضربه التيار الوطني أو الليبرالي حول الإمام الخميني وتياره.. حيث انتهت العملية إلى وضع التحالف بين التيار الإسلامي مع التيار الليبرالي على طريق النهاية ولصالح التيار الإسلامي بقيادة الخميني.

في خريف 2002.. وبضغط من المحافظين الذين رأوا في الحراك الإصلاحي مشروع حصار جديد لهم يتناغم ويتكامل مع نوايا واشنطن تحت شعار الحوار المفتوح.. صدر حكم قضائي ونُفذ اعتقال ومحاكمة لعباس عبدي الذي تزعم حركة الطلاب المعادية للولايات المتحدة وقاد عملية احتلال السفارة واعتقال العاملين فيها، ثم عاد بعد تجربة معقدة لينضم إلى التيار الإصلاحي باندفاع لا يقل قوة عن اندفاعه السابق وفي الاتجاه المعاكس، بحيث تجرأ على إجراء ونشر استطلاع كانت نتيجته أن 75% من الإيرانيين يحبذون الحوار مع الولايات المتحدة وإنهاء القطيعة والعداوة. فإذا ما وصل الخطاب إلى العراق فإنه في العلن لا يختلف بين الإصلاحيين والمحافظين، وإن كان المحافظون يرعون، بقبول إصلاحي، القوى العراقية المعارضة والمتفاهمة مع الولايات المتحدة، ويبادر السيد محمد باقر الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق المؤسس في إيران والمرعي من قبل التيار المحافظ بقوة، إلى دعوة أطراف هذه المعارضة إلى اللقاء والتفاهم حول مستقبل العراق في طهران، بعد العملية الأميركية المنتظرة، ومن دون معارضة لفكرة عقد هذا المؤتمر في بروكسل.. ويبتهج الإصلاحيون الإيرانيون بنجاح الإصلاحيين الأتراك بقيادة رجب طيب أردوغان في الانتخابات النيابية، ويبتهج المحافظون معهم على أساس ما في خطاب وبرنامج الإصلاحيين الأتراك من إيقاع إسلامي معتدل، بعد تراجع تيار نجم الدين أربكان الأقل اعتدالا والأكثر قربا من عقل الإخوان المسلمين الذين يختلفون عن الإيرانيين أكثر، ومن دون أن يتناقضوا، قياسا على مناصرة إيران المحافظة لحركة الجهاد الإسلامي وقبولها بحماس كأمر واقع فلسطيني لا يمكن تجاهله. وهنا تجاوز الجميع التوجهات التي عبر عنها أردوغان مبكرا، والتي تشير بوضوح إلى أن هناك تفاهما في العمق بين تركيا الإسلامية وبين المجتمع الدولي والولايات المتحدة خصوصا، (التفاهم مع العسكر، قبول العسكر للنتائج بطمأنينة، عدم التخلي عن السعي التركي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بكثير من شروطه العلمانية، عدم الإشارة إلى أي تعديل جذري محتمل في علاقة تركيا بإسرائيل، عدم نية أردوغان وحزبه تقديم أمثولة حكومة إسلامية أصولية أو شمولية وإصراره على أمثولة إسلامية ديمقراطية تتعاطى بإيجابية مع الغرب والمؤسسات الدولية).. هنا نصل إلى خلاصةٍ مضمونها أن الاختلاف أو الخلاف بين التيار الإصلاحي والتيار المحافظ في إيران على الحوار مع الغرب ومع الولايات المتحدة خصوصا، ليس عميقا إلا في حدود كونه مسلكا سياسيا محكوما بثقافة حوارية لدى الإصلاحيين، في حين أنه لدى المحافظين مجرد مسلك سياسي ذرائعي تمليه المصلحة الوطنية الإيرانية المتغيرة بما يقتضي تغيرها، من تغير في الموقف والعلاقة، أي أنها مسألة إشكالية تحتاج إلى تسويات دائمة.

يمكن الاستمرار في وصف المشهد الإيراني الحاشد بالتعقيدات والتشابكات والالتباسات التي تنتظر حلا غير قريب.. يمكن لنا ذلك بإيراد أمور تقترب من المفارقة.. ففي حين سعى الإيرانيون إلى تدبر أمرهم بشيء من المرونة أو التغاضي أو إعادة التفسير بعد وفاة الخميني لفتواه في سلمان رشدي، لم يترددوا في الدفاع عن نصر حامد أبو زيد وأحيانا بحماس شديد.. هذا في اتجاه الخارج.. أما في الداخل فإن عملية تعطيل ومنع تمت في الوسط الصحافي الإصلاحي، وتلقى (آغاجاري) الأستاذ في جامعة همدان حكما بالإعدام على خطاب له في تلاميذه، في حين حوصر عدد من أهل الاعتراض والسؤال الفكري النازعين نحو تحديث ما وتجديد إسلامي فكري (ملكيان ـ شبستري وعبد الكريم سروش مثلا ـ إضافة إلى سجن الشيخ عبد الله نوري وزير الداخلية بعد إقالته، وهو الذي قدم رؤية لتعديل في مسألة ولاية الفقيه في اتجاه تحويلها من موقعها الولائي الإلزامي إلى موقع النظارة الاستصوابية، أي التي يمكن تصويبها وتخطئتها من قبل أهل الخبرة من الفقهاء العدول).

عندما يدور الحديث عن إيران، لا بد من التوقف مليا عند وضع الشباب وكلامهم وآمالهم وخيباتهم، خصوصا أن شباب إيران كانوا المصدر الأول ـ إضافة إلى المرأة ـ لحيويتها السياسية ومتحولاتها الثقافية.. وهم الذين حموها في المواجهة مع العراق، فضلا عن صبرهم في فترة الحصار، على مدى ما يزيد على عقد من السنوات، مضحين بالكثير من حرياتهم ترجيحا لحماية بلدهم على حرياتهم وعلى مصالحهم الذاتية. فماذا يقول الشباب؟.. نحن ما زلنا في خريف عام 2002.. يقول الشباب إن الالتزام الديني في الجامعات والثانويات في تراجع مستمر، وإذا ما سألتهم عن اهتماماتهم الثقافية والفنية تجد بعضهم معنيا فقط بما يقع على الضد أو النقيض من الفكر والثقافة السائدة، وأكثرهم يقتصر اهتمامه على الرياضة والفن والموسيقى، والغربية منها بصورة خاصة، مع إطلالة لافتة على التراث الغنائي العربي الكلاسيكي وأغاني وموسيقى الشباب العربية، وحتى السطحي والرديء منها. وتسأل: لماذا؟ لماذا من دون رواية وأبحاث فكرية وشعر ومسرح وفنون تشكيلية؟.. ويجيبون بأن هذه أمور تحتاج إلى جهد فكري ووقت، وهم ليسوا مستعدين لبذل جهدهم ووقتهم في غير دروسهم الجامعية.. وتسألهم عن اهتماماتهم السياسية فيؤكدون أنهم يراقبون من دون حرارة العراق وأميركا، ويقرأون الأخبار ولا يهتمون بالتحليل، وينتظرون الآتي من دون شوق إليه، ولا يحبون صدام حسين وجورج بوش، وليست لديهم أي عقدة تجاه الشعب وأسلوب الحياة الأميركية.. وتحكم عليهم بأنهم يبالغون في هذا السلوك.. فيؤكدون لك أن عشرة في المائة من طلاب الجامعات يتابعون الأمور السياسية برغبة ذاتية، وعشرة في المائة يتابعونها إذعانا وحماية لعلاقتهم المصلحية بالدولة (أعضاء في قوات البسيج «النفير» مثلا)، وأن تجربة الإصلاحيين مع الحركة الطلابية، منذ أحداث الجامعة قبل سنوات، غير مشجعة، فقد تركوهم للشرطة والقضاء المسيّس ولم يحموهم، فأصبحوا محبطين في قسم منهم، والقسم الآخر يميل إلى التطرف في أفكاره التي صارت تتجاوز الأفكار الإصلاحية إلى الراديكالية، ومن دون مشروع سياسي محدد، بل ومع ميل إلى الفردية والتحرر الفردي من أي قيود ومن دون شعارات كبيرة.. أي أنهم معترضون أو رافضون وحسب.. ويذكرك بعضهم بشباب فرنسا عام 1986.. وفي لقاء بين أحد أكبر معاوني الرئيس خاتمي ونائب إصلاحي شاب من جهة وطلاب جامعة صنعتي شريف في طهران من جهة ثانية، صرخ أحد الطلاب بأن المجتمع الإيراني والشباب خصوصا يذهبون سريعا إلى طريق اليأس.. ورد أحد المحاضرين بأن ذلك له أسباب واقعية، ومن أسبابه سوء الأداء من قبل الدولة، ويتساءل بعض الطلاب عن مصداقية الشعار الإصلاحي (الديمقراطية الدينية)، معقبا بالقول: هذا مستحيل.. لأن هناك تناقضا بين الديمقراطية والدين.. وهذا شعار تلفيقي.. هذا الجو الشبابي يتمدد أو يمتد إلى الحوزة الدينية في قم.. وبهدوء ظاهر وتوتر عميق تتبلور تيارات شبابية في أوساط طلبة العلوم الدينية مهمومة بالسؤال الذي لا تسلم منه المسلمات الدينية ولا المنظومة الفكرية والعقائدية المذهبية، ومنفتحة باندفاع وجرأة على كل ما حولها من أفكار وأطروحات، على جدية في قبول الآخر والمختلف باعتباره تحديا معرفيا، مع نزوع عميق إلى إنتاج المعرفة بالمشاركة ومن دون قبليات أو موانع.

إلى أين انتهت التجربة الإصلاحية ولو في بعض مستوياتها؟ قبل الإجابة، لدي رغبة في القول مع القائلين بأن الإصلاح مسألة ثقافية أولا. وإنتاجيتها السياسية والاجتماعية لا تتوافق معها أي آليات ووثائق، أي أن الظاهرة السياسية تترتب قطعا على الظاهرة الثقافية، ولكن متأخرة عنها وأحيانا تتأخر كثيرا.. ومن هنا فإن التيار الإصلاحي في إيران وفي غيرها سوف يصل إلى النهاية.. والمستقبل ينتظر الإصلاح والإصلاحيين إذا ما كان الاعتدال والوسطية وإنتاج التسويات التاريخية ديدنهم، وكان رائدهم الإصلاح بقوانين الواقع، أي من الداخل ومن دون تهوين بشأن العوامل الخارجية المساعدة.. الرئيس السابق محمد خاتمي قدم جوابا عن هذا السؤال، أو شروعا في جواب، وقال كلاما بليغا جارحا ومجروحا ومحرجا له قبل غيره، عندما رد على أسئلة الصحافة في مدريد وهو إلى جانب رئيس الوزراء الإسباني السابق (أزنار). قال خاتمي: «إن الثقافة أجدى من السياسة، وإن تجربة الثقافي والمثقف في السياسة غير مجدية». نتفهم كلامه ونوافق على مراراته.. ولكننا نرى أن فيه تعميما وإطلاقا غير منهجي تماما.

* مفكر وكاتب لبناني عاصر الثورة الإيرانية وشارك في أحداثها منذ بدايتها