لن تزهر حدائق «أصيلة» إلا من رميم غياب الطيب ودرويش

TT

مرة أخرى، يؤكد موسم أصيلة الثقافي الحادي والثلاثين أن ينابيعه لم تنضب، وأن خطواته لم تته في صحراء الابتذال والتردي والوهن، بل سيظل يعترش قمم التجديد والعمق، بحثا عن أفق يحفل بالنداوة، وسيظل السادن الوفي لقيم الصفاء والحرية والانفتاح.

ففقرات الموسم كانت تغري بالإقامة في أفيائه، بعيدا عن مستنقعات الاستهلاك والاجترار والتكرار؛ مواضيع ندوات تحفر عميقا في جذر السؤال، كي تنتج قلقا طازجا، يغذي نسغ تفكيرنا ووجودنا وتواصلنا مع الآخر، بدءا بندوة التعاون العربي ـ الإفريقي ـ الإيبيرو ـ لاتينو ـ أمريكي التي طرحت سبل دعم التعاون جنوب ـ جنوب، ودور المجتمع المدني في دعم التعاون بين الشعوب والحكومات، فندوة «إفريقيا والبرتغال»، التي نبشت في العلاقات التاريخية القائمة بين إفريقيا والبرتغال، وكذا التأثير الإفريقي في الثقافة والفكر والإبداع البرتغالي، ثم ندوة «البعد الثقافي في الاتحاد من أجل المتوسط: أوروبا والمغرب العربي»، والدور الثقافي الذي يمكن أن يلعبه الاتحاد من أجل المتوسط في التقارب بين الاتحاد المغاربي وأوروبا، فندوتين تكريميتين للراحلين الطيب صالح ومحمود درويش، وتنظيم ندوة بشراكة مع مجلتي «نساء من المغرب» و«زهرة الخليج» حول «الإعلاميات العربيات»، ووضعيتهن في المشهد الإعلامي العربي وما يعانين من إكراهات، وضعية لا تنفصل عن السياق المجتمعي العربي بشكل عام، لكن كفاءة المرأة وجديتها وعدم قبولها لعب دور المرأة «الباربي» أو الأنثى المشتهاة، كفيل بتغيير نظرة الآخر لها سواء كان رفيقها الرجل أو المجتمع بشكل عام.

عقد الموسم، وإن بدا متلألئا مغريا، فمدينة «أصيلة» المغربية لم تبتهج كثيرا، وهي توشي به صدرها الفاتن، بعد أن ضاع واسطة العقد وإحدى درره الكريمة، فقد أفل نجم الطيب صالح في سماء الإبداع العربي، وفي سماء موسم أصيلة الثقافي الحادي والثلاثين، هذا المبدع الذي استطاع أن ينحت بحضوره الدائم إلى مدينة أصيلة، أخاديد عميقة في ذاكرتها، فبدا كرسيه في «مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية»، وهي القاعة التي تقام فيها عادة أشغال ندوات الموسم، وغرفته في فندق «زيليس» التي تعود أن يقيم فيها كل موسم، كامدي الملامح، يتمترسان خلف قلاع الصمت والتجهم.

كان الراحل الطيب صالح، يعترش أريكته في «مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية» بأبهة صمته وكلامه معا، بكامل عنفوانه وجرأته السودانية، للمشاركة في ندوة أو للرد والتعقيب على مداخلة، بسيطا، مخضبا بعبق الطفولة والدهشة، مبتهجا منشرحا مهللا للوجوه «الزيلاشية» الصبوحة التي تحيط به، منخرطا في دفء معشر الساكنة «الزيلاشية» ليرتق، ولو بشكل نسبي، خرم غياب الوطن الأم السودان في حياته، الذي وإن افتقده، فقد ظل يحمله في حقيبة سفره، أينما حل وارتحل، يشد كل الجمهور بحديث متدفق منتظم بإيقاع مليء بالتشويق وجمالية الحكي وحلاوته.

وهو يعبر المدينة القديمة، تميد أرصفتها تحت قدميه بدلال وأناة وغنج، وينصهر بياض عمامته وعباءته ببياض أزقتها، يتحدان، يصيران اثنين في واحد، يعلوان في حالة من النيرفانا، يهربان من صقيع اللا معنى، بحثا عن كينونة مشتهاة.

غياب آخر كان يجوس في دهاليز الموسم الثقافي الحادي والثلاثين، ألا وهو غياب الشاعر الراحل محمود درويش، الذي كان من المتوقع حضوره لموسم أصيلة الثقافي الثلاثين كي يطفئ معه شمعته الثلاثين، وهو الذي طالما احتفى بالحياة والموت معا، لكن غياب هاتين القامتين معا تبدد نوعا ما، ونحن نشهد اسمي الطيب صالح ومحمود درويش يعتليان منحوتتين في قلب حديقتين في أصيلة ستظلان موصولتين بقنوات دماء الحب والجمال والصفاء والعمق الإنساني التي طالما سرت في عروقهما. لهذا، ستظل هاتان الحديقتان وهادا مخضرا للأمل والحلم والإبداع مدى الحياة.

ونحن نؤبن مبدعين غابوا عنا، من الواجب أن نهلل ونزغرد أيضا انبجاس زهور إبداعية، أورقت في مشاغل موسم أصيلة الثقافي؛ أعني بذلك مشغل «التشكيل والتذوق الفني» ومشغل «كتابة وإبداع الطفل»، هو عرس للعصافير في عز زقزقتها، خدود مضرجة بحمرة الرمان، تعلن احتجاجها البريء الخجول بجحافل ألوان تجمهرت في مشغل التشكيل والتذوق الفني منذ سنة 1978، كي توقظ عصفور الفرح النائم في صدور الأطفال، وتنثر في الفضاء بريشتها القزحية كل ألوان الفرح والصفاء والبراءة والطفولة. أطفال انخرطوا في أجواء مشغل الكتابة بعيون ينبلج فيها ضوء القمر، وشعلة الطموح، وفورة التطلعات، فتحرروا، ولو موسميا، من غلواء المستهلك واليومي والمعلوماتي، وغمسوا أقلامهم في زبد موج أصيلة، كي يدلفوا إلى عالم الخيال، ويصنعوا حكايات بكل تلقائية وحرية.

فالطفل أشبه بقطعة الإسفنج، بمقدوره أن يمتص أي شيء يحوم حوله. وخلق فضاء إبداعي للطفل، كفيل بتحصينه ضد كل أشكال الابتذال والتردي، وضد كل ما هو استهلاكي. كما أن ردم تلك الهوة بينه وبين الفنانين والكتاب، كفيل بإخماد شعلة المغني والرياضي والممثل النموذج، التي تتوهج في ذهنهم، بشكل مقلق، وتعويضها إن لم أقل إرفاقها بصورة الفنان التشكيلي والكاتب النموذج، التي بدأت تنمحي شيئا فشيئا في ظل الثورة المعلوماتية والتكنولوجية، بشكل يضعف من ثقة الطفل في كل ما هو إبداعي وفني.

لكن هؤلاء الأطفال الناشئة، وهم يرسمون ويكتبون، تم تلقينهم أيضا أن أرض الكتابة والفن والإبداع تلك التي يطأونها، لن توتي أكلها إن لم تكن مشبعة برميم من سبقوهم من الفنانين والكتاب والمبدعين، فهذا الانبعاث لن يخضوضر إلا من رماد هذا الغياب، هذا لا يعني توثين الماضي، وكتابة المستقبل بحبر من سبقونا، بل وإن تخضبت هذه الناشئة بتراب من سبقوهم، فمن الضروري أن يزرعوا بذور فكر متجدد، ومتحرر، ودينامي، له استيهاماته الخاصة بهم، تعكس تطلعهم الإنساني نحو اللانهائي، ونحو جوهر الذات والوجود، وتستجيب لشروط المحيط الكوني الراهن.

* كاتبة من المغرب