«أبكوا» معنا!

TT

من أنجح البرامج التلفزيونية في شهر رمضان لهذا العام كان برنامج «خواطر» للمقدم أحمد الشقيري. وكانت رسالة هذا البرنامج لهذا العام هو وضع مقارنة حضارية للقيم والسلوك والعادات والطباع بين المسلمين والشعب الياباني، من خلال مواقف ومشاهد حقيقية وطبيعية تم تقديمها بمهارة ودقة وبساطة. طبعا لم نكن بحاجة لبرنامج تلفزيوني ليظهر لنا الفجوة الحضارية والمساحة الأخلاقية الهائلة الموجودة بيننا وبين اليابان، لأن «الجواب ظاهر من عنوانه»، ولكن تقديم هذه الفروقات بالشكل الذي تم يوصل المعنى المطلوب لأعرض شريحة ممكنة من المشاهدين، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو فئاتهم العمرية، وهذا بحد ذاته انتشار واسع ونجاح مشهود. هذه النوعية من الرسائل التوعوية كانت تقدم بشكل محاضرات أو ندوات ويطغى عليه نمط الملل والتكرار، وبالتالي فقدت التواصل الجماهيري وبطبيعة الحال لم تعد مؤثرة أو فعاله.

ولعل أبرز ما فضحته وكشفته حلقات برنامج «خواطر» لهذا العام هو الانغماس التام للناس في «الشعارات» الجميلة والعبادات الظاهرية دون التطبيق الحقيقي للمعاملات الكريمة والحفاظ على الأمانة والتعامل الصادق والحفاظ على الصالح العام، الذي هو أساس التكافل الاجتماعي. اليابان ظلت نموذجا قياسيا «محيرا» للناس وقصة نجاحها المذهل كتب عنها عشرات الكتب لمحاولة فهم أسباب التفوق الكبير، وخصوصا أن هذه الدولة نهضت بعد هزيمة كبرى من الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وتدمير مدنها الرئيسية بعد إلقاء القنبلتين النوويتين عليها وكان التفوق مذهلا بكافة المقاييس، ولكن لا يمكن قياس التفوق بنسب اقتصادية ومعدلات بطالة وأرقام نمو، ولكن الأهم هو القيم التي بني عليها المجتمع الياباني وتكريس هذه القيم لتصبح جزءا من الهوية الاقتصادية والثقافية للبلاد، بل وتم «تصدير» هذا الفكر إلى دول أخرى فتبنته نمور آسيا الاقتصادية ورأينا ماليزيا وتايلند وتايوان وطبعا كوريا وأخيرا الصين تتبنى الكثير من الأنظمة والأساليب اليابانية في إدارة الأعمال وتحصد نتاج ذلك الكثير من النجاحات المهمة.

والبرنامج الناجح الذي قدمه أحمد الشقيري، بأسلوب جديد ابتعد فيه عن الوعظ والمحاضرة وقام بتقديم أفكار البرنامج ورسالته بصورة خالية من التصنع وفي منتهى الوضوح والمباشرة، قام بفضح العديد من الممارسات المليئة بالنفاق والعنصرية والازدواجية، وهي تكشف المجتمعات التي نحي فيها وهي مليئة بالشعارات والكلمات البراقة. كيف تمتلئ المساجد بالمصلين والدول تحتل معدلات مرعبة في الفساد والقذارة في الطرقات! هناك شيء خاطئ ولا ريب، الفضيلة والعبادة وجهان لنفس العملة الواحدة، ومتى ما تم التركيز على العبادة وحدها دون أن يكون هناك تركيز بنفس الدرجة، إن لم يكن أقوى على موضوع المعاملات، فالأمة تتحول إلى دار كهنوت كبيرة لا علاقة لها بالدين والتعامل مع الناس. «خواطر» برنامج ناجح تمكن من تقديم جرعة أخلاقية مكثفة لكافة أفراد الأسرة، وأظهر أن القدوة ليست صناعة محلية، ولكن الحكمة هي فعلا ضالة المؤمن ممكن أن يسعى للحصول عليها من كل مكان مهما كانت الثقافات مختلفة بل وحتى الديانات أيضا! النتيجة والخلاصة التي يخرج بها المشاهد من مشاهدة الحلقات لبرنامج «خواطر» هي صادمة ولا شك، ولكنها حقيقية وهذا هو ما يجب أخذه في عين الاعتبار لإزالة ما كان يروج له من وهم بأن «كل شيء على ما يرام» و «نحن بخير» وغير ذلك من حقن التخدير الكلي التي تسببت في تعطيل فرص الإصلاح والتطوير المطلوب بشدة. نجاح كبير يستحق التحية لبرنامج «خواطر» وكل الأمل أن ينتقل البرنامج بعد ذلك لثقافات وحضارات أخرى ليظهر الفرق بيننا وبينها حتى لا نعتبر أن اليابان «حالة شاذة» ونتأكد أن التغيير والإصلاح والتطوير هي سمة كونية وسنة حياة ويبقى العيب فيمن اختار الجمود والركود والتقوقع.

[email protected]