الريل وحمد والمترو وصعدة

TT

رغم الأزمة المالية العالمية التي لم تستثن دولة في العالم، ورغم تأخر كثير من المشروعات الكبرى في دول عديدة، وعلى الرغم من الشح النسبي للثروات الطبيعية لإمارة دبي، فإنها التزمت بما أعلنته قبل أربع سنوات من أنها ستفتتح قطار المترو الآلي ـ وهو الأطول في العالم ـ يوم التاسع من الشهر التاسع في السنة التاسعة من هذه الألفية وفي التاسعة مساء تحديدا، ولقد «أنجز حرٌّ ما وعد»، فكان الافتتاح المذهل الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية، وكان الإصرار والتحدي الذي لا يلين أمام عواصف الأزمات وعوائد الدهر.

محطات القطارات والمواني والمطارات تثير في داخلي شجونا من نوع خاص. فكلما كنت في مطار أو محطة قطار أو نقطة تجمع لحافلات السفر البعيدة أو المواني البحرية، يشدني شعور بتساؤلات وحنين نادر: ترى! كم التقى الأحباب في هذا المكان بعد طول غياب؟ أم من كم دمعة ذرفها عاشقان ودّع كلاهما الآخر لفراق قد يطول كثيرا ـ أو كان إلى الأبد؟ وكم أمّ ودّعت وليدها عند هذا الميناء محتضنة إياه قبل أن يركب البحر ويمخر أهواله على ظهر سفينة قد تعود أو لا تعود؟ آهٍ: كم توادع أصحاب وأحباب عند هذا المرفأ؟ وكم التقى عاشقان عذّبهما الشوق والفراق؟ كم من عناق غرق بدموع الوداع جرى في محطة القطار هذه والمحصل ينادي على الركاب بأن «حان وقت الرحيل». أستحضر أغنية للمرحوم سلامه العبد الله: «هلّ دمعي على خدي نهار الوداع...».

ليس في تراثنا وأشعارنا الكثير عن العشق والقطارات كوسيلة تقرّب أو تبعد الأحباب، ربما لندرتها في عالمنا العربي، مع أن أول قطار في العالم بعد انجلترا كان في مصر أيام الانتداب البريطاني عليها في القرن التاسع عشر، وسماه المصريون «القَطر»، بينما سماه أهل العراق والجزيرة ريل من الإنجليزية RAIL وانتشر اسمه بعد سكة إستانبول ـ الحجاز بدايات القرن الماضي.

سجلنا كثيرا من قصائد الشوق مستذكرين القوافل و«حادي العيس» التي قد تنقل خبرا عن الأحباب، وناشدنا الضعن أن يحمل لنا خبرا عن الحبيب، وخاطبنا الحمام أن ينقل السلام فشَدَت نجاح سلاّم «يا حمام سلّم»، وناشدت فيروز العصافير وطيور الوروار أن «يروح صوبن مشوار، سلّم لي عالحبايب، وخبرني بحالن شو صار».

لعل أشهر من قال في القطار قصيدة غناها ياس خضر هو الشاعر العراقي مظفر النواب بقوله: «مرّينا بيكم حمد، واحنا بقطار الليل، سمعنا دَق قهوه، وشمينا ريحة هيل»، ليصل إلى «وِلك يا ريل لا تصرخ، وِلك وتفزّز السّمرة». كان للقطارات البخارية القديمة صافرات ذات صوت عالٍ مزعج.

لكن مترو دبي هادئ ينساب كالسكين في زبدة يقطع المسافات من وسط الإمارة حتى أطرافها، فلا «هرن» ولا «زمور» ولا «بوري» ولا «كلكس»، وهي الكلمات التي نستخدمها لتعني المنبه الذي سماه النوّاب «صرخة الريل». ينقل مترو دبي ركابا وعمالا ومتسوقين، بل وعشاقا وأحبابا وكثيرا من الحالمين في هذه المدينة التي تسير الحياة فيها أسرع من قطارها.

القطارات وشبكة الطرق وحركة المواصلات كلها مؤشرات على حركة الحياة ودليل على حيوية ونشاط من يعيشون في بلد ما، المواصلات تقرّب البعيد، وتنقل المسافرين والبضائع والبريد والأمل. كنت أتابع أخبار مأساة صعدة والقتال المدمر الذي تسبب به الحوثيون وغياب القطار، ثمة رابط قوي بين القطار والطرقات المعبَّدة والسلم والاستقرار، سكك الحديد الآمنة تعكس الأمن وحضور الأمل في البلاد، وتوحي بحركة اقتصادية بين محطاته، بل وبنقل آهات الغياب، وجمع الأحباب، ونقل العشاق، ومشاهد العناق.

أجزم أن ثمة علاقة بين الدمار وغياب القطار!