تجربة «اتفاق أوسلو» وأوهامها

TT

لم يعلن أحد حتى الآن وفاة اتفاق أوسلو وقد أنجز ذكراه السادسة عشرة. لم يعلن ذلك لا الإسرائيليون ولا الفلسطينيون. مع أن الفلسطينيين خاضوا برئاسة ياسر عرفات مفاوضات تمهيدية لإنجاز الحكم الذاتي، ثم خاضوا مفاوضات الحل الدائم عام 2000 في كامب ديفيد برعاية أميركية، وكان الفشل علامة فارقة في التجربتين. ولم يعلن ذلك الإسرائيليون مع أن الإسرائيليين بادروا عام 2002 بزعامة شارون إلى الإعلان رسميا عن إعادة احتلال الضفة الغربية. لقد مات أوسلو الموقع عام 1993 في البيت الأبيض، في أروقة المفاوضات، ولكن أحدا لم يتبرع بإعلان نعيه حتى الآن، مع أن خططا جديدة، ووثائق جديدة، واتفاقات جديدة، برزت في السنوات الأخيرة بديلا له، من وثيقة «رؤيا بوش»، إلى وثيقة «خطة خارطة الطريق». وبرزت بينهما وثائق أخرى حملت اسم «تقرير ميتشل» المفاوض الحالي باسم الرئيس أوباما، و«ورقة تينيت» الرئيس السابق لجهاز المخابرات الأميركي، و«خطة دايتون» لبناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهي خطة سارية المفعول حتى الآن.

لقد جرب الرئيس الراحل ياسر عرفات كل الوسائل من أجل إنجاح اتفاق أوسلو، والوصول من خلاله إلى دولة فلسطينية مستقلة. أصدر فور توقيع الاتفاق أوامر بوقف الانتفاضة (الأولى)، وأمر قادة الانتفاضة الميدانيين أن يتوجهوا إلى مكتب الحاكم العسكري الإسرائيلي في غزة لتسليم أسلحتهم، ونفذوا الأوامر فردا فردا. وكان يأمل أن يحقق له اتفاق أوسلو السيطرة منذ البداية، السيطرة على 90% من الأرض لينشأ فوقها حكم ذاتي يتطور إلى دولة، ثم تتواصل المفاوضات حول مساحة الـ10% الباقية، وهي المساحة التي توجد فيها المستوطنات والقواعد العسكرية. ولكن هذه الرؤيا التفاؤلية حول اتفاق أوسلو لم تتحقق، وتوصل الفلسطينيون بعد مفاوضات مضنية إلى حكم ذاتي على منطقة (أ) أي على مساحة 22% من الضفة الغربية وقطاع غزة، وها هي المساحة الصغيرة التي نالها المفاوض الفلسطيني تتقلص يوما بعد يوم، تحت ضربات المستوطنات الإسرائيلية، والسعي الإسرائيلي الدائم للسيطرة على القدس، والطرق الالتفافية، ومسار الحوار الفاصل الذي تم بناؤه.

لقد واجه الرئيس الراحل ياسر عرفات، منذ بداية وهم أوسلو، نظريات تقسيم قطاع غزة إلى مجموعة ألوان، خضراء وصفراء وحمراء، وواجه تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج)، وسقطت بذلك نظرية الحكم الذاتي على 90% من الأرض، منذ الأيام الأولى للتفاوض.

ثم واجه الرئيس الراحل ياسر عرفات نظرية إسرائيل للسلام الدائم في مفاوضات كامب ديفيد، فوجد أنها تبتلع نصف الضفة الغربية، وتضع مصير القدس موضع تساؤل، وتنحي جانبا موضوع عودة اللاجئين الفلسطينيين، فسقطت بذلك نظرية الدولة الفلسطينية. وعند اتضاح هذه النقطة انفجرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

وحين جاء محمود عباس إلى منصب الرئاسة الفلسطينية، كان شديد الإيمان بأن «إرهاب» الانتفاضة الثانية هو الذي أفشل اتفاق أوسلو، وأن إنهاء هذا «الإرهاب»، والعودة إلى طريق المفاوضات، والمفاوضات فقط، هو الذي يضمن قيام الدولة الفلسطينية، وها هو يحاول ويحاول، يحاول مع الرئيس جورج بوش ويفشل، ويحاول مع الرئيس باراك أوباما، فيتلقى الضربات المتوالية حتى يكاد يترنح، ورغم كل الضربات التي يتلقاها، فإنه لا يستطيع أن يستنتج ما سبق للرئيس عرفات أن استنتجه، وهو أنه لا يمكن إجراء تفاوض ناجح من الضغط على إسرائيل، عبر مقاومة شعبية فعالة ضد الاحتلال. أما التفاهم مع الاحتلال، وأما التعاون الأمني مع الاحتلال، فنهايته خسارة المباراة، بالنقاط أو بالضربة القاضية.

لقد أفرزت تجربة أوسلو المريرة دروسا بالغة الوضوح. دروسا تخص السياسة الإسرائيلية تقول: إسرائيل لا تريد قيام دولة فلسطينية. تريد قيام «كيان» فلسطيني يسيطر على السكان ولا يسيطر على الأرض، حسب شعار مناحيم بيغن منذ أن وقع اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر. وإسرائيل لا تريد الانسحاب إلى حدود العام 1967، وهي تتمسك حتى اليوم بتعابير وردت في قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي يتحدث عن حدود معترف بها، أي حدود جديدة تعترف بها إسرائيل. وإسرائيل لا تريد إلغاء الاستيطان، ولا تريد وقف الاستيطان لأنها تريد الأرض الفلسطينية، والاستيطان هو الطريقة الفعالة للسيطرة على الأرض. ومن لا يدرك هذه الدروس المستخلصة من تجربة أوسلو التفاوضية، يكون كالأعمى الذي يسير على غير هدى. وهذا هو وضع المفاوض الفلسطيني حاليا، إنه كالأعمى الذي يسير على غير هدى.

إن جذر هذا الفشل يكمن في اتفاق أوسلو نفسه، فهو لمن لديه الاستعداد لقراءته من جديد يخلو من أي ذكر لكلمة (احتلال). ويخلو من أي ذكر لكلمة (دولة فلسطينية). ويخلو من أي ذكر (لمرجعية التفاوض). ويخلو من أي ذكر (لوقف الاستيطان). ويرهن المستقبل كله بذكر مجموعة كلمات، مجموعة كلمات فقط، الانسحاب والاستيطان والقدس واللاجئون والمياه، واعتبارها موضوعات التفاوض على الحل الدائم، ومن دون تحديد كيفية هذا التفاوض. وهناك من يقول إن اتفاق أوسلو يستند إلى خطأ أفدح من كل هذا الذي ذكرناه، فهو أول اتفاق في التاريخ، تعقده ثورة مسلحة مع عدوها الرئيسي، ويكون جوهر الاتفاق أن تذهب قيادة الثورة على قدميها نحو الخصم، لتقيم في ضيافته، ولتجلس في أحضانه وتحت سيطرته. وقد استغل العدو الإسرائيلي الفرصة النادرة التي لاحت له، فأخذ ينكل بالقيادة الفلسطينية، وأخذ ينكل بالشعب الفلسطيني، وأخذ ينكل بالقضية الفلسطينية أيضا.

وفي سياق هذا كله، كانت الولايات المتحدة الأميركية تعمل دائما على خطين متوازيين: تأييد إسرائيل في مطالبها التفاوضية، والضغط الدائم على الفلسطينيين ليتراجعوا ويقبلوا مطالب إسرائيل. وأدى موقفها هذا إلى فشل دائم ومتوال لكل عمليات التفاوض التي أقدمت على رعايتها. وحين جاء رئيس أميركي جديد هو باراك أوباما، وأعلن أنه يريد تنفيذ دبلوماسية أميركية جديدة هدفها إنجاز تسوية فلسطينية ـ إسرائيلية، ورفع من أجل ذلك، وكمقدمة للعمل، شعار وقف، مجرد وقف، الاستيطان الإسرائيلي، ووجه برفض إسرائيلي صارم. وكانت المفاجأة حين بدأ الرئيس الأميركي يتراجع، داعيا العرب، وضاغطا عليهم، من أجل التطبيع مع إسرائيل، لعله يمكن بعد ذلك إقناعها بوقف الاستيطان، واختفى بذلك الضوء الباهت الذي ظهر في سماء المفاوضات، ثم ضاع في عتمة الظلام.

درس تاريخي كبير عاشه الشعب الفلسطيني من خلال تجربة اتفاق أوسلو، لا بد أن يقود فورا إلى ضرورة الاعتراف بفشل سياسة التفاوض مع إسرائيل. ولا بد أن يقود فورا إلى الاستعداد الدائم للنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي.

درس تاريخي كبير يتضمن إدانة لسياسة الانفراد الفلسطيني بالعمل بعيدا عن العرب، ويتضمن ضرورة العودة مجددا إلى منهج التعاون الفلسطيني ـ العربي، الإقرار بأن فلسطين قضية عربية وليست قضية فلسطينية، وأن إسرائيل تمثل خطرا على العرب مثلما تمثل خطرا على الفلسطينيين.

ولا بأس أن يعترف العرب، بعد تجربة دبلوماسية مريرة، بأن شعار «السلام خيار استراتيجي» يحتاج إلى إعادة نظر.