أربعاء الرماد.. ثانية

TT

قبل ثلاث سنوات عنونت مقالة لي هنا بـ«أربعاء الرماد»، مستعيرا عنوان قصيدة اليوت لوصف انفجارات وقعت في أربعاءات ثلاثة نفذها انتحاريون يستهدفون تجمعات البسطاء، فهل يعوز سلسلة الأربعاءات السود وقبلها وبعدها المئات من مبعوثي الموت الناشرين له وللخراب الآتيين من نفس المسارب كثير أدلة؟ وهب أن ضعف إمكانياتنا وقلة حيلتنا ورفض تصديقنا حالت دون تحديد جهة التسرب تلك، فهل ستضل عنها القوة الأكبر في العالم علميا وعسكريا ومخابراتيا والتي طالما حملت هذا المسرب مسؤولية عبور 90% من الإرهاب الوافد؟ مع ذلك ننظر بزوايا متعددة لتفجيرات الأربعاء الدامي، هذه التعددية مردها حدة التصعيد وتوقيته غير المسبوق، كونه أتى عشية زيارة قمة بين البلدين، بل وجاء بالتضاد ومجهضا لرغبة برفع درجة العلاقة بينهما إلى مستوى التعاون الاستراتيجي، وأيضا للالتباس الذي بات يسود عندنا ما بين المحلي والإقليمي والدولي، وشاع في الأراضي المنخفضة المستقطبة والمستقبلة للتدخلات، وأعني بذلك ديمقراطيات منطقتنا، حيث في لبنان مثلا تستطيع أن تعزو فشل قائد الأغلبية في تشكيل حكومته ومراوحته طيلة ثلاثة شهور بأن تسببها وتقرنها ما بين الصهر المعطل (عقبة توزير صهر الجنرال عون) إلى الملف النووي ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.

فقد تعددت التفسيرات والتعليلات حول دوافع وبواعث التصعيد العراقي للأزمة مع سورية، إلا أن الذي يلحظ أن الناظم بينها والمشترك هو التضارب والتناقض، بل وغالبا الاستسهال وحينا العكس بالذهاب إلى التعقيد عبر حشد أكبر عدد ممكن من السيناريوهات المحتملة، فتم خلط ما هو داخلي بالإقليمي والدولي، فمن ينتقد رئيس الوزراء المالكي بأنه أراد بهذه الأزمة تحويل الانتباه عن فشل حكومته الأخير في حماية أمن العراق ومواطنيه، حيث إن العنف المتزايد قوض من الصورة التي حرص أن يرسمها لنفسه كقاهر للتمرد ومحقق للإنجاز الأمني، وأنه يحاول تقوية موقعه قبل الانتخابات البرلمانية، إذ إن تسخين الوضع مع سورية هو رهان مضمون يعزز من حظوظه الضعيفة، ووظف الأزمة كهروب عن فشل حكومته في التقدم في ملف الخدمات الأساسية، وحزمة أخرى من الأسباب تذهب بها وتعزوها إلى صراعات حزبية، فترى أن المالكي لجأ إلى ذلك بعد أن تخلى عنه حلفاؤه الشيعة الذين كانوا قد دعموه للوصول لرئاسة الوزارة، حيث إن عزلته عن التحالف الشيعي ستهدد فرصه بحشد أغلبية تقف خلفه في الانتخابات البرلمانية، إذ إنه أراد ترحيل الأزمة بينه وبين منافسيه وتوجيهها إلى الخارج. كما أنها تأتي نتيجة شعور بخوف أوسع يتهدد النظام برمته، حيث إن هناك خشية من أن هذه التفجيرات التي استهدفت الرموز السيادية للدولة تشي بقدرة على الإطاحة بالنظام وبمبارزة شرعية الحكومة نفسها بوضعها موضع تشكيك سواء بالتفجيرات ذات الأبعاد السياسية أو بالتوجس خيفة من اجتماعات المسؤولين الأمريكان مع بعض التنظيمات العراقية المسلحة، في حين أن أخرى جعلت بواعث هذه الأزمة خارجية وأن الحكومة العراقية ما هي فيها إلا وكيل لأجندات، فمن اعتبر أنها تقف وراءها إيران لـ«قرص» أذن سورية ومنعها من الذهاب بعيدا في تطوير علاقاتها وانفتاحها مع الأمريكان عبر الانخراط في الحلول السلمية، أو لمنعها من التفكير في الفكاك من تحالفها الاستراتيجي مع إيران بتحفيز وتشجيع من العرب، أو أن الأزمة افتعلتها أمريكا لتهشيم التشدد السوري في ملفات المنطقة ولكسر تمنعه في مفاوضات السلام، ولتسريع سير سورية باتجاه التحالف مع الغرب والنأي عن حضن إيران، بل من ذهب به الخيال الخصب إلى تفسير ما قام به العراق في التأزيم مع سورية هو للتقارب مع السعودية الممتعضة من الإعاقة السورية لتشكيل الحكومة اللبنانية، وأنه عربون يقدمه للتقرب من محور الاعتدال.

بالتأكيد لا يمكن أن تكون دوافع الحكومة العراقية في «التصعيد» تعود لهذا الكم الواسع بل المتناقض من الأسباب، والتي يلحظ أنه غاب عنها تحديدا ما جرى وهو كونه رد فعل على تفجيرات دموية ناهز ضحاياها ما تخلفه الكوارث الطبيعية، هزت الرموز السيادية، ضربت في قلب الحكومة، أتت بعد انتقال المسؤولية الأمنية لها على مدنها، أفشلت الاختبار في أسابيعه الأولى، أضعفت الثقة بها كملاذ، قوضت صدقية الادعاء بأن الجار مستفز من الوجود الأجنبي، ومن جهة أخرى فإن الانفجارات هذه ليست قابلة للرسملة، إذ هي ليست ولن تكون الأولى لتستثمر لتحويل الانتباه من الداخل للخارج، ولا اقتران لها بانتخابات ما زال يفصلنا عنها شهور أربعة في بلد كل أيامه حبلى، ولا أريد لها التوظيف في خلافات داخلية طالما كانت سمة الساحة السياسية، ولا هي وسيلة لرفع شعبية المالكي التي هي أصلا ليست منخفضة بالاستدلال بأدائه المتقدم في انتخابات مجالس المحافظات، ولا هي بدوافع شعوره بالعزلة كون الائتلافات والتحالفات ما زالت مفتوحة ولم تتبلور بعد.

أما البعد والحافز الإقليمي والدولي للأزمة، أي أنها نشأت بتحريض من إيران وأمريكا، ففضلا عن الاتضاح البين على تهافت هذه الفرضية كون ببساطة أن الطرفين يقفان كقطبي نقيض ومصالحهما طالما تصادمت وتحالفاتهما عادة ما تنافرت، فإني أستدل بمعلومة ولا حاجة للإيغال بتحليل لا يحتاج حتى إلى اختراق قشرته، إذ ما حدث هو العكس تماما، فإيران تدخلت وعلى أعلى المستويات وفي لقاءات علنية وسرية لحث العراق على عدم التصعيد مع سورية، أما لجهة أمريكا فاللافت أن هناك مرارة من موقفها غير المساند، حيث نأت بنفسها عن الخلاف واعتبرته ثنائيا، بل وذهبت للتشكيك بوفرة الأدلة العراقية، تحدوها في ذلك رغبة بعدم تعطيل خطوات الانفتاح مع سورية التي تستلزمها ملفات المنطقة الأخرى. ولكن الذي لا تريد أن تدركه هذه التحليلات أن العراقيين سئموا أن يظلوا وقودا لمعارك الآخرين، وبات على شكواهم أن تبقى مؤجلة وتضيع وسط الضجيج الآيديولوجي وخدمة لأنظمة الإخفاق، لذا فليس ذنبهم أن بحثوا عن عدالة مفقودة وتطلعوا إلى طرف ضامن، حيث أصبحت المحاكم الدولية سلاح من لا حول له ولا ملاذ من لبنان إلى السودان إلى العراق.