عيد بأي حال..؟

TT

ما من شيء يعكس النفسية السوداوية للعراقيين كهوسهم بالقبور والمقابر. كثيرا ما سألني إخواننا العرب ونحن نستمع إلى شيء من أغاني المقام العراقي، لماذا كل هذا الأنين والبكاء في أغانيكم أنتم يا عراقيين؟ سمعت ذلك حتى من أكثر الدول العربية فقرا وشقاء ومع ذلك لم تتسم أغانيهم بما يتسم به الغناء العراقي.

بيد أنني وجدت هوس العراقيين بالقبور والمقابر أكثر تعبيرا عن نفسيتهم الملانخولية. ولم أجد ما هو أكثر تعبيرا عن هذا الهوس بالموت والمقابر كعادة استقبال العيد السعيد بزيارة قبور موتاهم في الصباح الباكر في اليوم الأول من كل عيد والجلوس بجانب القبر للانطلاق في نوبة عجيبة من النحيب والبكاء والتمسح بأحجار القبر، وكأنها خدود الميت وجيده ويديه. وأعتقد أنهم سيجدون في عيد الفطر هذا ما يكفي من القبور ويفيض عن الحاجة وزيادة. ولا شك أنهم سيجدون أيضا من المأساة والألم في حياتهم الراهنة ومصيرهم المظلم ما يبرر أي نحيب وبكاء وزيادة.

هكذا كان واجبنا كأطفال أن ننهض من فراشنا في الصباح الباكر. نلبس ملابسنا الجديدة ونمشط شعرنا ونعد أنفسنا في أبهى منظر ونسرع إلى المقبرة لينظر إلينا فقيدنا ويرى كيف سنبكي عليه. تقول الوالدة لابنها: «يا الله أسرع! لازم توصل للقبر قبل ما تطلع الشمس حتى يشوفك أبوك من قبره». هذا على اعتبار أن الموتى ينامون بعد طلوع الشمس ويستفيقون عندما تغرب.

وبعد أن ينتهي الزائر من واجب البكاء يجلس ليستمع لتلاوة القرآن الكريم، سورة ياسين، السورة المفضلة منها، يتلوها عليه أحد المقرئين المحترفين الواقفين عند باب المقبرة. وهذا هو المكان الذي يأخذ شكل السوق الحرة التي تكلم عنها آدم سميث وآمنت بها مرغريت ثاتشر. تجري المساومة على أجرة التلاوة. وهو ما فعلته أم وليد. جاءت لتبكي ابنها الفقيد الذي قتل في قادسية صدام. طلب منها درهما، خمسين فلسا، ثمنا للتلاوة ووجدت ذلك مجحفا فساومته. وكان يوم كساد في التلاوات فقبل بأجرة عشرين فلسا صافيا فقط. حمل مصحفه معه وقادته السيدة الثكلى إلى قبر ابنها وليد، حيث جلس بجانب القبر وانطلق بتلاوة مقطع من الذكر الحكيم بصوته الأجش إلى أن وصل إلى «يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم» إلى آخر الآية، فلم تتمالك أم وليد ـ وقد استولى عليها الاكتئاب والقلق واغرورقت عيناها بالدموع ـ غير أن تقاطع المقرئ فراحت تتوسل به: «عيني الله يخليك، ما شفت آية بالقرآن غير هذي الآية عن جهنم وعذاب الآخرة تقراها للمرحوم ابني الشهيد وتخوفه وتخلي قلبه يحتصر. يعني ماكو شي آخر عن ذكر الجنة وخيراتها؟»

وأجابها المقرئ: «خالة وانت اش اعطيتيني؟ كلها عشرين فلس! تريدين بها يلبس ثياب من سندس واستبرق ويقعد مع المتكئين على آرائك الجنة خالدين فيها بين ولدان وحور؟.. بعشرين فلس؟».