أبو سعيد في العيد

TT

أبو سعيد يجن عشقا بالحياة، لكن الحياة لا تبادله حبا بحب، بل أسرفت في ممارسة صدودها عليه منذ أن أطلق صرخته الأولى في بيت من بيوت الصفيح في أطراف مدينة تتسم بالمتناقضات، مات أبوه يوم قدومه إلى الدنيا، ولم تطق أمه فراق زوجها، فلحقت به خلال عام، لينبت أبو سعيد في العراء، تحتضنه الشوارع، والحظوظ العواثر. حينما كبر تزوج أول امرأة عطفت عليه، أنجب منها ابنه «سعيد» قبل أن تتكل على الله وترحل هي الأخرى، تاركة سعيد على خطى أبيه في الضياع والتشرد.

حينما انطلقت مدافع العيد بالأمس، وتعالت أصوات الباعة في الشوارع العتيقة:

«يا حلاوة العيد يا حلاوة

من مال جديد يا حلاوة»

هب «أبو سعيد» يجمع لوازم العيد، ابتاع حلوى اللوزية، وعطر الليمون، وزجاجة من عصير التوت المركز، كنس بيته، ومسحه، وارتدى ثوبه الجديد، وكان أول القادمين إلى مسجد الحي لأداء صلاة الفجر، قبل أن ينطلق إلى مصلى العيد مرددا بصوته الجهوري:

«الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله»

حينما انتهى من صلاة العيد أنفق آخر ريال في جيبه على أربعة أطفال بالتساوي، وعاد يقرع الدروب إلى حيه بحذائه المهترئ، فتح باب الدار والنوافذ، أشعل بخور «المستكا»، واستنشق عبقها فانتشى، ظل ينتظر زائرا يأتي لتهنئته بالعيد، لكن الباب ظل مسكونا بالصمت رغم جلبة الشوارع، وضجيج جيران، داهمته نوبة يأس من أن يأتي أحد للتهنئة، فآثر أن يبدأ هو في تهنئة الآخرين.

مر على ثلاثة من الأبواب المغلقة، قرع جرس الأول فلم يجبه أحد، وقرع جرس الثاني فجاءه صوت الخادمة ليبلغه أن الناس نيام، وقرع الباب الثالث فأطلت من خلف عينه السحرية عين، واختفت في صمت.

مر على شجرة «النيم» العتيقة في الحي، حيّاها فهزت أغصانها احتفاء، مر في دربه بأطفال يرتدون ثياب العيد الملونة كرايات الفرح، فابتسم لهم، لكنهم في نشوة أفراحهم لم يتنبهوا له، انتحى رصيفا في ركن الشارع، فرغ عامل النظافة لتوه من كنسه، وأطلق عقيرته بأغنية شهيرة للفنان محمد عبده:

«ومن العايدين إن شا الله

ومن الفايزين إن شا الله».

[email protected]