الفرح الصعب

TT

ركبت سيارة أجرة للانتقال من مدينة إلى أخرى، والمسافة لا تزيد على 160 كيلومترا، وفي الطريق تعطلت السيارة وأصلحها السائق خلال نصف ساعة، وواصلنا المسير، وخلال هذه المدة التي كنت فيها معه، تبادلنا الأحاديث في موضوعات شتى، ونشأ بيننا ما يشبه الثقة.

لفت نظري فيه مرحه وروحه الطيبة، وعدم يأسه أو تشكيه، ورغم أن حقائبي ثقيلة، إلى جانب بعض الأكياس الممتلئة (بالخرابيط)، إلا أنه حملها دون أن يطلب مساعدتي له.

وقبل أن نصل إلى العنوان المطلوب بعدة دقائق علمت منه أن زوجته قد توفيت قبل أسبوع، وقال لي ذلك بأسى وهو يتصنع الابتسام.

وعندما توقفنا واستلمت كل حاجياتي ودفعت له الأجرة، سألته صادقا: من أين لك هذه الروح المتفائلة، وهذه الإرادة الحديدية في السيطرة على مشاعرك؟!

أجابني بكل جد وبساطة: إنك يا سيدي لست متسببا ولا مسؤولا عن وفاة زوجتي، فلماذا أحملك حزني وآلامي؟!

عندها فقط تذكرت مقولة العالم النفساني «نتانيل براندن»:

إن العذاب أسهل النشاطات الإنسانية، أما الفرح فهو أصعبها، فليس هناك إنسان يولد سعيدا، ولكن الإنسان هو الذي يصنع سعادته بنفسه.

وفي مقابلة مع الممثل الزنجي المشهور «سدني بواتييه» قال: إن سر نجاحي بالدرجة الأولى أنني وضعت (الفرح) أمامي ونصب عيني، رغم أن الظلام الحالك كان يلف أيامي، وعندما انتقلت من (الباهاما) مهاجرا إلى (نيويورك) لم يزد عمري وقتها على السادسة عشرة، كنت فقيرا، وأميّا، ولا أعرف أحدا، التحقت كخادم في مطعم متواضع أغسل الصحون، وأنام في سطح إحدى البنايات مع الفئران والجرذان.

وبما أنني بطبيعتي متفائل أكثر من اللازم فقد توقعت أنني من الممكن أن أنجح بالتمثيل، فذهبت إلى المسرح الزنجي الأمريكي، وعندما اختبروني وعرفوا أنني لا أقرأ ولا أكتب، صرفوني بأمر المخرج الذي قال لي: إنك يا بني تضيع وقتي.. ورجعت منكسرا إلى المطعم، وصممت على أن أتعلم، وقد ساعدني في البداية زميلي في العمل، ثم التحقت بمدرسة لمحو الأمية، ومنها انتقلت إلى معهد صغير لتعلم التمثيل، واشتريت راديو أصبح يلازمني ليل نهار، ولا أسمع به لا موسيقى ولا أغاني، كنت أضع مؤشره دائما على التمثيليات بجميع أنواعها، وأحاول أن أجاري الممثلين وأقلدهم.

وبعد أربعة أعوام، ذهبت إلى (المسرح) الذي سبق وأن طردت منه، ونجحت في الاختبار بتفوق، وبدأت أشق طريقي وأنا (أضحك) في كل يوم ما لا يقل عن مائة ضحكة.

ومن المسرح انتقل «سدني» إلى الأفلام وإلى (هوليوود)، وإلى الشهرة والثراء والنجومية، وحصل على جائزة (الأوسكار) كأفضل ممثل عام 1963، وهو يؤكد أن نجاحه لم يكن بسبب موهبته ولكن بسبب (إصراره على التفاؤل).

حقاً: إن العذاب أسهل النشاطات الإنسانية، أما الفرح فهو أصعبها.