أول الغيث قطرة

TT

في تعليقها على تصريحات الرئيس السابق جيمي كارتر، التي أشار فيها إلى اعتقاد عدد كبير من البيض في الولايات المتحدة أن «الأفارقة الأميركيين غير مؤهلين أن يقودوا هذا البلد العظيم»، كتبت بوني غرير في جريدة «الغارديان» البريطانية (17 أيلول 2009 ص 24) : «إنه أمر مشين ومرعب ومثير للغضب ولكنه ليس جديدا، فقد بنيت أميركا على العنصرية». لا توجد عبارة يمكن أن تصف الجرائم الإسرائيلية التي ارتكبت بحق المدنيين الفلسطينيين العزل في غزة، مثل هذه العبارة التي كتبتها بوني غرير، وكذلك هي نتائج تقرير غولدستون التي تؤكد مرة أخرى أن الحكومة الإسرائيلية ترتكب أعمالا مشينة ومرعبة ومثيرة للغضب، ولكنها ليست جديدة، فإسرائيل تمارس جرائم الإبادة من المجازر الوحشية والقتل اليومي المتواصل منذ أكثر من ستين عاما بهدف جعل فلسطين «أرضا بلا شعب» وإقامة «الدولة اليهودية» على أنقاضها. هل نذكر مجزرة دير ياسين أم قانا؟ وهل نذكر صبرا وشاتيلا أم جنين أم كفر قاسم أم الحصار المفروض منذ سنوات على غزة.

ومن منا لا يتذكر قوائم «القتل المستهدف» التي يعلنها قادة إسرائيل على الملأ ويبدأون بتنفيذها، لا بل ويتفاخرون بارتكاب جرائم الاغتيال، ومع ذلك يستقبل هؤلاء، المجرمون بكل المقاييس، في معظم العواصم الغربية على السجاد الأحمر، ويعقدون مع الزعماء الغربيين المؤتمرات الصحفية ليتحدثوا عن «الديمقراطية» و«مكافحة الإرهاب». والسؤال الجوهري هو هل كان العالم الغربي ليتحمل ارتكاب مثل هذه الجرائم ضد شعب أوروبي أو غربي أو أبيض اللون؟ وبما أن الجواب حتما بالنفي، فلا توجد كلمة تعبر عن قبول مديد وصامت بقتل الآخر وعدم إثارة ضجة حول قيمة حياته وجريمة استلابه من الحياة التي منحه الله إياها سوى «العنصرية».

حين كتب الرئيس السابق جيمي كارتر كتابه «فلسطين، السلام وليس التمييز العنصري» شنت الدوائر الصهيونية حملة إعلامية ضده متهمة إياه بكل التهم الباطلة، واليوم ورغم السمعة الدولية للقاضي غولدستون التي لا يرقى إليها الشك، ورغم اعتماده أفضل المعايير المهنية في التحقيق، فإن الدوائر الصهيونية اعتبرت التقرير الذي يدين الجرائم ضد البشر مجرد «انتقاد» وشنت حملات دبلوماسية وسياسية وإعلامية ضد التقرير، وهذا بحد ذاته موقف عنصري، لأنه يرفض الاهتمام بحياة من يتحدث عنهم التقرير والإجابة على التساؤلات التي طرحت بشأن حقهم في الحياة.

والعناوين التي ظهرت في الإعلام الغربي إثر صدور التقرير أيضا، تدل على انحياز الإعلام «الحر» المطلق لإسرائيل حتى وهي تعتدي على حياة الملايين من الفلسطينيين، فتحرمهم من الحياة والحرية وحقوق الإنسان. فالمهم بالنسبة لإسرائيل وأصدقائها، هو ألا يواجه جنرالات الجيش الإسرائيلي الذين ارتكبوا الجرائم الدموية بحق المدنيين الفلسطينيين، الاعتقال حين يسافرون في عطلهم!

واستعراض بسيط للعناوين يري أن قلق إسرائيل وأصدقائها في معظم ما نشر، كان على «سمعة إسرائيل» وعلى «حركة» مرتكبي الجرائم في العواصم الغربية، وليس التوصل إلى العدالة في مسألة الضحايا الذين فقدوا حياتهم نتيجة عدوان مباشر وسافر عليهم لم يقم وزنا لهم كبشر في الدرجة الأولى.

ومع أن حركة بتسليم الإسرائيلية وثقت أيضا شهادات الوفاة والصور والأسماء للأطفال والمدنيين الفلسطينيين الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية عن عمد وسابق إصرار، الأمر الذي يتقاطع مع تقرير غولدستون، فإن عناوين ما كتب في الصحف الغربية وحدها مؤشر واضح على موقف عنصري سافر ضد الفلسطينيين، لأنه لا يقيم وزنا لحياتهم، وهنا بعض الأمثلة: ففي جريدة «الغارديان» البريطانية كتب أيان بلاك مقالا بعنوان: «إسرائيل مهددة بالقانون الدولي، على الضباط الإسرائيليين أن يكونوا حذرين في حجوزات عطلهم، لأن تقرير غولدستون يفيد بأنه يمكن اعتقالهم في الخارج». («الغارديان» 15 أيلول 2009). وفي جريدة «الاندبندنت» البريطانية كتب دونالد ماسنتر مقالا بعنوان «الأمم المتحدة تقول إن إسرائيل يجب أن تواجه محكمة جرائم حرب بشأن غزة». والعنوان نفسه يعزي النتائج لتقرير الأمم المتحدة في «الدايلي تلغراف»، ولكنه يضيف اقتباسا من التقرير بأن «إسرائيل ارتكبت جرائم عن عمد ضد المدنيين الفلسطينيين وألقت القنابل الفوسفورية». أما «الفايننشال تايمز» فتقول على لسان هارفي موريس بأن لجنة الأمم المتحدة «تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب» (16 أيلول 2009). والعنوان نفسه تردده جريدة «الصنداي تايمز» بقلم جيمز بون في نيويورك «الأمم المتحدة تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في غزة» (16 أيلول 2009). أما «النيويورك تايمز» فتقول إن «لجنة التفتيش وجدت جرائم حرب في غزة من كلا الجانبين» (16 أيلول)، مع أن عدد المدنيين الفلسطينيين الذين استشهدوا نتيجة عدوان غزة تجاوز الألف وأربعمائة فلسطيني. وفي اليوم الثاني أيضا كل ما كتب ينطلق من وجهة نظر إسرائيلية ولا نقاش عن قيمة وحياة الفلسطينيين، فقد ورد في جريدة «الغارديان» البريطانية بقلم افوا هيرش مراسلة الشؤون القانونية: «تقرير الأمم المتحدة الذي سيكون من الصعب على الحكومة الإسرائيلية نكرانه». وفي «الاندبندنت» (17 أيلول) «الإسرائيليون يهاجمون التقرير الذي يدعي جرائم حرب في غزة»، وفي «اللوس انجلز تايمز» (17 أيلول) »إسرائيل تهاجم التقرير والإدعاءات بجرائم حرب في غزة»، وفي «النيويورك تايمز» (17 أيلول) «إسرائيل ترفض الدعوة لتحقيق في غزة». مع أن التقرير أثبت أن المئات قتلوا وبشكل وحشي ومتعمد، فالكتابات هنا في كل الإعلام الغربي تتحدث عن «ادعاءات» و«انتقادات» وعن ردود إسرائيل والاحتياطات التي يجب أن يتخذها قادتها كي لا يتم اعتقالهم في الخارج. أين هو حرص الديمقراطيات الغربية على حق الإنسان في الحياة، أم أن حياة العربي الفلسطيني لا تساوي حياة إنسان غربي؟!

لنتخيل للحظة أن الأمور كانت عكسية، وأن أي دولة عربية اتهمت بقتل هذا العدد من الإسرائيليين أو الغربيين من أي دولة غربية ذي سحنة بيضاء، لكنا وجدنا الإعلام الغربي وعلى مدى أسابيع مليئا بصور الضحايا وقصص حياتهم والمأساة التي تعرض لها أهلوهم بعد ذلك، ويتم إحياء ذكراهم كل عام، أما ولأن الضحايا من المدنيين العرب المسلمين، فلا ذكر لاسم ضحية أو لصورته أو لمأساة أهله، بل التركيز كل التركيز على «سمعة إسرائيل»، وأجوبة إسرائيل، وطرق الخلاص لإسرائيل من هذه الأزمة.

لقد أكدت تقارير حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة لسنوات على ارتكاب إسرائيل جرائم إبادة بحق الفلسطينيين، وتمكنت أجهزة الدعاية واللوبيات الصهيونية من إسكات هذه الأصوات بطريقة أو بأخرى، ولكن العالم بدأ يرى اليوم أن الصمت المخجل عن فرض إسرائيل وأصدقائها العقوبة الجماعية على أكثر من مليون مدني فلسطيني في غزة، أصبح أمرا مشينا ومرعب ومثيرا للغضب، ولدينا في العالم ولحسن الحظ أصوات حرة مثل صوت الرئيس كارتر، وغولدستون، وبرستروم، وبتسليم، الذين امتلكوا الشجاعة والضمير الحي ليضعوا الأمور أمام أنظار البشرية.

المؤسف في الأمر أن الدور الرسمي العربي في كل هذا باهت ومضمحل. ولكن قضية فلسطين التي تحاول إسرائيل وأصدقاؤها إزالتها من أجندة الكفاح الإنساني من أجل الحرية، هي اليوم قضية عدالة دولية ولا بأس أن يحمل مشعلها أحرار أمثال كارتر وغولدستون وسيتبعهم غيرهم من أحرار العالم دون شك. لن تستطيع الصهيونية أن تكمم أفواه الأحرار بعد اليوم، لأن تاريخ جرائمها بدأ يظهر للعيان، ولن يتمكن أي من أصدقائها وأعوانها الدفاع عن هذه الجرائم أو التغطية عليها، وكما لطخت المحرقة التاريخ الألماني لفترة طويلة، فإن عار المجازر في غزة سيلاحق إسرائيل وشركاءها في العدوان والحصار.