ضياع السبيل الوسط

TT

جرت العادة بين السياسيين في واشنطن على اتباع قاعدة مفادها أنه عندما تصبح المحليات متوترة، مثلما الحال الآن، فإن السبيل الأكثر أمنا هو الهرع باتجاه الوسط. لكن مع اقتراب نهاية هذا الصيف المتجهم والمتوتر، لا يزال الوسط السياسي يبدو أشبه بخط أبيض ممتد بطول شارع مزدحم ـ ينظر إليه الجميع كمكان من الحمق الوقوف به ومن الرائع اجتيازه. ربما يحتاج الرئيس أوباما للإبقاء على هذه الصورة في ذهنه، ليس فقط في إطار مساعيه للخروج بسلام من الجدل الدائر حول إصلاح الرعاية الصحية، وإنما أيضا في إطار جهوده لتناول باقي عناصر أجندته الطموحة والواعدة. في الواقع، يتميز أوباما ببراعة فائقة في تناول القضايا الشائكة من خلال رفض ما يطلق عليه «الخيارات الكاذبة». لكن بعض الخيارات شاقة وما من سبيل سوى إرجائها، وليس تجنبها. بوجه عام، يسود إيمان قوي في الثقافة السياسية في واشنطن بمسألة صنع السياسة من خلال التوصل إلى سبل وسطى ـ «الالتقاء في الوسط» ـ باعتبار ذلك السبيل إلى كسب والإبقاء على دعم مجموعة كبيرة ومعتدلة وذات توجهات منطقية من الناخبين الذين يشكلون مركزا سياسيا متناغما. تكمن مشكلة هذا التحليل، من وجهة نظري، في أن الكثير من القرارات الكبرى التي يجب اتخاذها قاطعة، بمعنى أنها لا تتقبل سوى الإجابة بنعم أو لا. أما المنطقة الوسطى فلا تضم سوى حلول مثل «ربما» أو «إلى حد ما». ولا أرى من جانبي أن البلاد في حالة مزاجية تقوم على «ربما» أو «إلى حد ما».

في الواقع، الكثير من الطاقة والعاطفة والغضب التي ظهرت داخل دور البلدية حول إصلاح الرعاية الصحية جاء مفتقرا إلى العقلانية وقائما على معلومات خاطئة سخيفة. بيد أن المشاعر كانت صادقة، وتعكس حقيقة أن أقصى اليمين يتخذ موقفا عنيدا رافضا باتجاه أي شيء يحاول أوباما تنفيذه.

من الواضح أن الجمهوريين داخل الكونغرس قرروا أنه من مصلحتهم الإبقاء على مثل هؤلاء الناشطين المتحمسين داخل معسكرهم ـ حتى المخبولين منهم الذين ينكرون شرعية أوباما كرئيس والآخرين الذين يشككون في وطنيته. لو كانت هناك فرصة للفوز بدعم الجمهوريين لتشريع يوفر إصلاحا حقيقيا للرعاية الصحية، فإن تلك اللحظة قد ولت.

ومن شأن ذلك تحويل قضية الرعاية الصحية إلى محل نزاع بين الديمقراطيين. الملاحظ أن اليسار النشط في الحزب لا يتسم بالقدر ذاته من الغرابة لدى نظيره الجمهوري. إلا أنه سيكون من الخطأ بالنسبة للرئيس أو القيادات الديمقراطية في الكونغرس الحط من أهمية الرغبة القوية في إصلاح نظام الرعاية الصحية بين القاعدة النشطة للحزب.

لقد راود الديمقراطيين حلم توفير رعاية صحية شاملة منذ عهد إدارة ترومان. وأدار أوباما حملته الانتخابية بناء على وعد بتوفير هذه الرعاية، أو على الأقل أمر شديد الشبه بها. وبدت العناصر التقدمية الديمقراطية في مجلس النواب والعناصر الجوهرية الأخرى داخل الحزب جادة في تحذيرها البيت الأبيض من عواقب التخلي عن فكرة توفير خيار تأمين صحي عام.

عند النظر إلى الوراء، نجد أنه ربما كان من الخطأ بالنسبة لأوباما السماح بقضية الخيار العام بالتحول إلى اختبار على درجة بالغة من الأهمية، ذلك أن وجود برنامج تديره الحكومة لا يشكل شرطا ضروريا مسبقا لإقرار رعاية صحية شاملة، مثلما اتضح من تجارب دول أخرى، مثل ألمانيا وفرنسا واليابان. لكن من وجهة نظري أرى أن المقابل الوحيد المنطقي للتخلي عن الخيار العام توافر القدرة على نقل التغطية الخاصة بالتأمين الصحي إلى مستوى أقرب بكثير إلى الشمولية الحقيقية. فيما عدا ذلك، يبدو أن «عصبة المفاوضين الستة» داخل مجلس الشيوخ ـ الذين يحاولون بطريقة ما «الالتقاء في الوسط» ـ يتحركون في الاتجاه المعاكس.

إن الديمقراطيين على حق في اعتقادهم بأنه يتعين عليهم تمرير نمط ما من تشريعات الرعاية الصحية أو سيجري اتهامهم ـ عن حق، حسب وجهة نظري ـ بالافتقار بشدة إلى الكفاءة. لكن ما الجدوى من تقديم تنازلات إلى الجمهوريين الذين، في نهاية الأمر، لن يصوتوا لصالح التشريع في كل الأحوال؟

فيما يتعلق بالديمقراطيين المنتمين إلى تيار الوسط والذين يشكلون ولايات ذات أصوات انتخابية حاسمة وقادرين على تقليص النشاطات «الإصلاحية»، مَن يعتقدون أنه سيكون الأكثر عرضة للخطر في الانتخابات حال إخفاق جهود الإصلاح واتخاذ الناخبين قرارا بمعاقبة الحزب؟ هل يعتقدون أن أمامهم فرصة لهزيمة خصومهم الجمهوريين القادمين حال افتقار النشطاء التقدميين للحماس حيال التبرع بالأموال وإجراء المحادثات الهاتفية والتنقل من باب لآخر؟

في نهاية الأمر، من المحتمل أن يخلص الديمقراطيون إلى أن شيئا ما أفضل من لا شيء، وبالتالي، يمررون صورة ما من مشروع قانون يمكن وصفه بـ«الإصلاح». لكن إذا نظر إلى هذا القانون باعتباره صورة باهتة مخففة من النسخة الأصلية، فإن أوباما قد يضطر إلى دفع ثمن مقابل ذلك. لقد أبدى التقدميون استعدادهم لعدم الضغط عليه فيما يخص تكثيف الوجود الأميركي في أفغانستان، والأموال الضخمة التي جرى إغداقها على «وول ستريت»، وعدم إجراء تحقيق كامل حول الانتهاكات التي وقعت خلال فترة رئاسة بوش. ومن الممكن أن تتحول هذه القضايا أيضا إلى قضايا حاسمة، لا تحتمل إجابة سوى بنعم أو لا ـ بينما تزداد صعوبة الوصول إلى «الوسط».

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»