عالم ما بعد 11 أيلول بعد مرور 8 سنوات

TT

مع مرور الزمن، تتراجع عادة أهمية الأحداث الكبرى ولا يبقى منها سوى تأثير التداعيات التي خلّفتها، والديناميات الجديدة التي أدخلتها إلى لعبة الأمم.

بدأت الحرب العالمية الأولى بعد اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند. فكانت المجزرة على السهول الأوروبية، وكانت معاهدة فرساي، ووُلد نظام عالمي جديد أغلبه أوروبي في ذلك الوقت. فلم يعد أحد يذكر الاغتيال، لتبقى ذكرى الحرب في الأذهان، خصوصا أن آلية حل هذه الحرب كانت السبب الأساسي لتحضير الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك، أنتجت الحرب العالمية الثانية نظاما عالميا جديدا يقوم على الثنائية.

في العام 1989 سقط الاتحاد السوفياتي، فكانت النتائج الجيوبوليتيكية كبيرة جدا، الأمر الذي جعل الرئيس فلاديمير بوتين يقول: «إن سقوط الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة جيوبوليتيكية في القرن العشرين».

تميز سقوط الدب الروسي عن سقوط القوى العظمى والإمبراطوريات الأخرى، بأنه سقوط طوعي تقريبا سلمي ـ حتى لو تحققت في بعض الأمكنة مقولة صامويل هنتنغتون ـ وليس عبر حرب عالمية شاملة.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تشكل نظام العالم الأحادي بقيادة العم سام. لم يعد أحد يتحدث عن السقوط السريع لإمبراطورية بطرس الأكبر، بل تركزت الدراسات والتحليلات على تداعيات هذا السقوط ومفاعيله.

بعد سقوط جدار برلين لم تكن شهية أميركا مفتوحة لعرض قوتها، خصوصا الصلبة. بل تظهّرت شهيتها بعد كارثة 11 سبتمبر (أيلول) 2001. شكلت هذه الحادثة نقطة تحول جذرية في النظام الأحادي، فقط لأن المتقاتلَين هما الأكثر وزنا في العالم الولايات المتحدة الأميركية ضد مقاتل من وزن الريشة، وذلك استنادا إلى معايير القوة الصلبة: تنظيم القاعدة.

في الذكرى الثامنة لكارثة 11 أيلول، لم تعد الذكرى سوى ذكرى عادية، كسابقاتها من ذكريات الأحداث الكبرى. لكن الحديث عن تداعيات هذه الحادثة لا يزال قائما بقوة، فقط لأن التداعيات تأخذ وقتا طويلا كي تعطي مفاعيلها، وبعكس الحادثة بحد ذاتها التي تتمثل بمكان وزمان معينين ومحدودين.

ماذا عن فرادة الحداثة؟

إنه الاعتداء الأول منذ الحرب الإنكليزية على أميركا العام 1812، على الأرض الأميركية (بيرل هاربور خارج الأرض الأميركية). هذا مع العلم أن حرب 1812، تسببت بحرق البيت الأبيض وهروب الرئيس الأميركي أندرو جاكسون منه.

إنه الاعتداء الأول من لاعب من خارج إطار الدولة يكون له تداعيات دولية مهمة، بحيث تبدل تأثير الإرهاب من البُعد الإقليمي إلى البُعد الدولي. كذلك تبدل هدف الإرهاب مع 11 أيلول، وحسب المنظار الغربي، إلى هدف يسعى إلى قتل الأبرياء بعدما كان سابقا يسعى إلى الكثير من التغطية الإعلامية لإرسال الرسائل السياسية. بكلام آخر، أصبحت المجتمعات المدنية الساحة الأساسية للإرهاب الجديد.

لم تكلف حادثة 11 أيلول تنظيم القاعدة أكثر من 500 ألف دولار. لكن الكلفة والخسائر الأميركية المباشرة والآنية وازت ما يُقارب 100 مليار، هذا عدا الكلفة غير المباشرة.

كيف غيرت تداعيات حادثة 11 أيلول النظام العالمي الأحادي؟

لم يكن أمام القوة الأحادية من خيارات سوى الرد. فالعكس كان يعني سقوط الصورة والقدرة الردعية. فكيف ستضبط أميركا سلوكية العالم الأحادي وهيمنتها عليه، إذا كانت غير قادرة على حماية نفسها خصوصا أن هجوم تنظيم القاعدة قد استهدف رموز القوة المالية الأميركية، كما رمز القوة العسكرية، البنتاغون، هذا عدا الطائرة التي سقطت في بنسلفانيا والتي كانت تستهدف كما يُقال الرموز السياسية الأميركية.

بعد 11 أيلول وقعت أميركا في المحظور، أي إعلان الحرب. فعلى من تُعلن الحرب؟ وضد أي عنوان؟ وكيف تقيس نجاحها؟ وما معايير هذا النجاح؟ بكلام آخر، وقعت أميركا في معضلة الذهاب إلى الحرب، أو عدم الذهاب إليها. ففي الحالتين هي خاسرة. ألم يقُل الجنرال الأميركي تشيرمن إن الحرب هي الجحيم؟ وألم يقل تشرشل إن الحرب هي في الدرجة الأولى مجموعة من تراكم الأخطاء؟

ردت أميركا حيث الملاذ الآمن لتنظيم القاعدة في أفغانستان، فأطاحت نظام الطالبان عبر حرب من نوع جديد، قامت على عقيدة عسكرية ترتكز على القوات الخاصة، إلى جانب القوة الجوية الذكية، والاستعمال الكثيف لوسائل الاتصالات الحديثة.

بعد الحرب على الطالبان، تظهرت مفاهيم وعقائد جديدة في سلوكيات العم سام، أهمها عقيدة بوش الاستباقية، ومبدأ السيادة المشروطة للدول التي لا تتعاون مع الحرب الأميركية على الإرهاب. ولأن الحرب العسكرية تتطلب غطاءً إيديولوجيًّا كان مبدأ نشر الديموقراطية والحرية. كذلك سعت إدارة بوش إلى تغيير المجتمعات العربية ـ الإسلامية من الداخل.

بعد إطاحة الطالبان، كان احتلال العراق العام 2003. وبدل أن تكون الحرب على العراق مرحلة من ضمن مسار طويل، غرقت أميركا في الوحول العراقية لفترة طويلة. فاحتلال العراق هو كالجلوس في مركز ثقل المنطقة. ومنه، يمكن التأثير في مروحة واسعة تبدأ في بغداد، وتمر في سورية ولبنان وإيران ومنطقة الخليج ككل. وبعدها، يمكن الانطلاق إلى آسيا الوسطى حيث الأهمية الاستراتيجية الكبرى لأميركا، لأن منطقة آسيا الوسطى تطل على روسيا العائدة والصين الصاعدة.

أدى الغرق الأميركي في العراق إلى تظهّر أمور كثيرة منها:

* أن القوة الأحادية الأميركية ليست كما تدعي. فهي مثلها مثل باقي القوى تصعد وتسقط، تخسر وتربح. وهي ليست من عالم ما بعد قيام الإمبراطوريات الكبرى وصعودها. فها هي عاجزة عن فرض حلولها على المقاومة في العراق، حتى إنها وصلت إلى حد التفاوض مع هذه المقاومة للوصول إلى الحلول السياسية التي تساعدها في رسم استراتيجية الخروج من العراق.

* أعطى الغرق الأميركي في العراق القوى الأخرى الوقت الكافي كي تدبر أمورها. ألا يتحرر الفأر عند غياب الهر؟ استفادت الصين فاستكملت صعودها الاقتصادي الناعم، كما عمدت إلى تطوير قدراتها العسكرية. كذلك استفادت روسيا مع بوتين من الغرق الأميركي، وذلك عبر رسم خطة عودتها كلاعب كبير في النظام العالمي، فبدأت في محيطها المباشر كخطوة أولى (الحرب على جورجيا)، مقابل العجز الأميركي وحلف الناتو عن الرد.

* إذا اعتبرنا وكما يقول المؤرخ الإنكليزي بول كينيدي، أن الإمبراطوريات تقوم على عنصرَي القوة والثروة، بحيث تحمي القوة الثروة، لتصرف الثروة بدورها على استمرارية القوة. ومع الوقت تتآكل قدرة الثروة كما القوة، لتسقط بعدها الإمبراطوريات. في هذا الإطار، قد تكلف الحرب على العراق ما يُقارب 3 تريليونات دولار حسب المفكر جوزف ستيغليتز. يُضاف إلى هذه الكلفة، الأزمة المالية العالمية. هذا مع العلم أن الدين العام الأميركي يُقارب 11 تريليون دولار، وأن العجز السنوي هو تقريبا نحو 1.75 تريليون دولار. وإذا كانت الإمبراطوريات الكبرى تقوم على قدرتها المالية وعلى المستوى المتدني للمديونية، فإن أميركا قد اقتربت من الخط الأحمر أي خط السقوط عن العرش الأحادي، هذا إذا كانت الأحادية لا تزال قائمة.

* إذن نحن أمام عالم متعدد الأقطاب، وإلا فما معنى تشكل مجموعتَي الثمانية الكبار ومجموعة العشرين؟ وهذا أمر قد يحتم إعادة النظر في تركيبة كل المؤسسات العالمية التي أنتجها نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، إن كان على صعيد الأمم المتحدة ومجلس الأمن، أو على مستوى النظام المالي العالمي المعروف بـ«بروتون وودز». على كل، يبدو أن بعض المفكرين الكبار يعارضون فكرة عالم متعدد الأقطاب، ليقولوا إن عالم اليوم هو عالم لا قطبي. لكن مشكلة أميركا اليوم لا تعني سقوطها السريع كما يبشر البعض، فهي لا تزال الأولى بين متساوين، فقط بسبب غياب البديل.

* أدى الغرق الأميركي في العراق إلى صعود إيران كقوة إقليمية كبرى تسعى إلى النووي، والى رسم النظام الإقليمي الجديد، حسب أهدافها في المنطقة. كذلك، ظهر الفشل الأميركي في العراق عبر عودة الصراع بين الإثنيات والأديان والمذاهب. فإلى جانب شعار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أصبح لدينا اليوم الصراع العربي ـ الفارسي، كما الصراع الشيعي ـ السني. بكلام آخر، أصبحت المنطقة على ديناميات وشعارات ومفاهيم جديدة، بحيث تتعذر العودة إلى الآليات القديمة، اللهم عبر الحرب، وهذا أمر مستبعَد اليوم.

بعد 8 سنوات على 11 أيلول، غابت الحادثة كذكرى احتفالية، واستمرت تداعياتها الكبيرة إن كان على أميركا أو على تركيبة النظام العالمي غير المتشكل بعد. وقد يمكن القول إن تنظيم القاعدة، منفذ 11 أيلول، هو بدوره قد تراجع ليصبح هامشيا، وكأنه قال كلمته، فعل فعلته ومشى.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي