مستفيدون وخاسرون من المأزق الإقليمي

TT

«عادة التقدميين ارتكاب الأخطاء، وعادة المحافظين منع إصلاحها»

(جي. كيه. تشسترتون)

عندما وقعت «حرب الفولكلاندز» (أو جزر المالوين) في أقصى جنوب غرب المحيط الأطلسي بين الأرجنتين وبريطانيا عام 1982، علّق أحد الساسة البريطانيين اليساريين، بأنها «حرب يخوضها نظامان فاشيان يستفيد كل منهما من تشدّد الآخر».

يومذاك كان حكم طغمة الجنرالات اليمينيين الأرجنتين بقيادة الجنرال ليوبولدو غالتييري والأميرال خورخي آنايا بحاجة إلى الهروب من أزماته الداخلية عن طريق إنجاز قومي كبير، فوقع خياره على غزو الأرخبيل الصغير الذي طالما طالبت به الأرجنتين ولقيت مطالباتها آذاناً صماء من القوى المسيطرة عليه.. بريطانيا. وجاء قرع «الطغمة العسكرية» طبول الحرب ليؤجج المشاعر الوطنية في الشارع الأرجنتيني الذي بارك «تحرير جزر المالفيناس» (كما تعرف الفولكلاندز/المالوين باللغة الإسبانية).

وفي المقابل، في لندن، كانت رئيسة الحكومة المحافظة مارغريت ثاتشر تواجه بعض الصعوبات في تسريع وتيرة «ثورتها المضادة» اليمينية ضد دولة الضمانات الاجتماعية خلال فترة حكمها الأولى، وبالتالي، كانت بحاجة لإنجاز قومي يجمع البريطانيين كلهم خلفها في مواجهة ضخمة مع عدو خارجي.

وكعادة الحروب، انزلق أحد الطرفين إلى حرب خاسرة بناء على اختلال في الحسابات. وكان في حالة الفولكلاندز الأرجنتينيون، الذين توهّموا أن الولايات المتحدة في عهد رونالد ريغان ستقف معهم كونها «الأخ الأكبر» في أسرة الدول الأميركية، والراعي الأول لقوى اليمين العسكريتاري ضد قوى اليسار فيها.

يومذاك، غاب عن بال طغمة غالتييري ورفاقه البعد الاستراتيجي لتحالف ريغان ـ ثاتشر في عز المواجهة مع الاتحاد السوفياتي. وبالتالي، وقفت واشنطن ـ فعلياً ـ مع ثاتشر التي استغلت انتصارها في الحرب أعظم استغلال، فكسبت الانتخابات التالية، ومعها كوّنت قوة دفع أتاحت لها لاحقاً البقاء في السلطة 11 سنة، شهدت عالمياً الانتصار التاريخي على الاتحاد السوفياتي.

اليوم في الشرق الأوسط، وسط الضعف العربي المقيم تتنامى ـ كما هو معروف ـ قوة ثلاث قوى إقليمية غير عربية.. هي إسرائيل وإيران وتركيا. وإذا ما نحّينا تركيا جانباً لبعض الوقت باعتبار أنها لتاريخه تعتمد سياسة انفتاحية هادئة وطويلة النَفَس، لوجدنا أن القيادة الإسرائيلية تبتزّ مواطنيها ومعهم العالم كله بتضخيمها قوة إيران وتحريضها عليها. وفي المقابل، تواصل القيادة الإيرانية استغلال العدوان الإسرائيلي الجاثم والمعربد في المنطقة لطرح نفسها القوة المحرّرة المنقذة من الذل والهوان.

هنا نحن إزاء وضع مشابه لذلك الذي وصفه السياسي اليساري البريطاني.. حيث تستفيد كل من طهران وتل أبيب كلما ازدادت جرعة التطرف عند الطرف المقابل.

فتل أبيب مصرة على المتاجرة بالملف النووي الإيراني.. مع أنها تدرك أن واشنطن لا تنوي ضرب إيران عسكرياً لما لذلك من عواقب استراتيجية خطيرة سواء لإيران نفسها أو لجيرانها. وعليه، فهي تستثمر هذا الملف لإحراج إدارة أميركية ليبرالية تقدمية ترتكب يومياً ـ تقريباً ـ كل الأخطاء المألوفة من أي إدارة ليبرالية مثقلة بالشعور بالذنب.. إزاء مفهومي العدالة والحزم في ممارسة السلطة. ومن ثم، تستغله لشل إرادة الرئيس باراك أوباما وإفشال مبادرات إدارته.. فيستسلم لخططها التوسعية الاستيطانية ويصرف نظره عن التسوية العادلة للقضية الفلسطينية.

أما طهران، فتجد في عهد صعود قيادات الأمن إلى النسق الأعلى من السلطة، من خلف واجهات بعض الملالي المحافظين، أن الظروف غدت أكثر من مناسبة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الإقليمية. فالحالة العربية حالة مزرية، والفوضى ضاربة أطنابها، والمقاييس مقلوبة ومخلوطة.. والعرب نسوا عروبتهم «من زمان»!

وتركيا اليوم تحت قيادة إسلامية ضنينة بالعلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، مغلِّبة هذه العلاقات لأول مرة منذ عقود عديدة على علاقاتها الأطلسية الغربية، ولذا فهي راغبة بتفاهم محوري إقليمي بين أنقرة وطهران قد يعيد بشكل ودي هذه المرة الاستقطاب العثماني ـ الصفوي.

وإسرائيل يحكمها غلاة اليمين العنصري الذي لا يريد السلام، بل لا يفهم لغة الحوار ويرفض أي صيغة من صيغ التعايش. وبالتالي، فهو يوفر أفضل أرضية للنقمة واليأس والتعصب والتشدد في كل شيء. وحقاً، أسهم هذا اليمين بإعادة رسم ملامح المواجهة لتكون بين يهودية إسرائيل وإسلام حماس وطهران، ومواجهة كهذه لا يمكن إلا أن تعطل أي تحرك غربي نزيه ومحايد.. حتى إذا وُجد.

وواشنطن أوباما مرتبكة، عاجزة عن الحسم، تنتقل من سوء تعبير إلى سوء تقدير، ومن سوء تقدير إلى سوء فهم.. وفي الحصيلة تبدو عاجزة عن تحقيق أي شيء. فلا المتفائلون بزوال كابوس جورج بوش وزبانية «المحافظين الجدد» مع قدوم عهد أوباما يشعرون اليوم بثقة كافية بحزم إدارته وجديتها، ولا ما تبقّى في المنطقة من أتباع لبوش احتفظوا بالحد الأدنى من الصدقية بعد ما حصل في العراق. أما الذين استمرأوا المزايدة وتخوين أي عاقل.. فتشرئب أعناقهم ويعرضون عضلاتهم في كل يوم تترنح فيه مبادرات واشنطن الخجولة أحياناً.. والركيكة والانتهازية دائماً.

مما سبق يبدو واضحاً أن ثمة مستفيدين وخاسرين من المأزق الإقليمي. وما لم تصبح الصورة جلية عند أصحاب العلاقة المباشرين، أي الملايين من الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين واليمنيين.. واستطراداً عشرات الملايين من العرب وكذلك الإيرانيين، سيظل هؤلاء يدفعون فاتورة باهظة لانعدام الإرادة الوطنية، والوعي الحقيقي بالمصلحة العليا في المنطقة، وانعدام الأخلاقيات والالتزام بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان عند القوى العالمية الكبرى التي لا تفهم حقوق الإنسان إلا سوطاً للتهديد.. أو سلعة للمساومة مع غاصبيه.