عبد الله بن عبد العزيز.. ووصية الـ220 كلمة

TT

كأنما أراد خادم الحرمين الشريفين أن يكون لليوم الوطني في ذكراه السابعة والسبعين نكهة تراثية يستحضر فيها بالكثير من التأمل والتطبيق الوصية التي تركها الوالد المؤسس الملك عبد العزيز، طيَّب الله ثراه، لتكون النهج الذي يعتمده الأبناء الملوك من بعده.

عمر الوصية ثلاثة وسبعون عاما، وجاءت كما توضح وثائق وأدبيات حقبة التأسيس بعدما استقر التشاور بين الملك عبد العزيز وكبار القوم على تعديل اسم البلاد التي توحدت ليصبح «المملكة العربية السعودية» بدل «المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها»، وعلى انعقاد مجلس الوكلاء والشورى يوم 11 مايو (أيار) 1933م، حيث أبرم قرار مبايعة كبير الأبناء الأمير سعود وليا للعهد. هنا كان لا بد في نظر الملك عبد العزيز من تحديد معالم الطريق لمن سيصبح من بعده ملكا ولسائر إخوانه الذين سيتعاقبون على قمة المسؤولية، فلا يجتهد الواحد منهم في ما سيفعله، ولا يحتار في ما يقدمه للناس، وإنما يضعون أمامهم الوصية فهي تلخص المطلوب وتنهى عما من شأنه حدوث ارتباكات. بل إن الوصية هي البنيان مع إبقاء الهامش على درجة من الرحابة للملك الابن الذي سيثري بما يؤتيه الله عز وجل من عزيمة وبما يبقي ضميره مرتاحا تجاه الله الذي أعطى والوالد الذي أسس والشعب الذي ساعد وارتضى.

الوصية موضوع مقالنا عبارة عن برقية من مائتين وعشرين كلمة، بعث بها الوالد المؤسس الملك عبد العزيز إلى ولي العهد الأول الأمير سعود، وجاءت كما لو أنها بالتقليد المتبع في العالم الحديث للحكم والحكام والحكومات كتاب التكليف يسير المكلَّف في هديه فينجح، أو لا يأخذ به فيكابد نتيجة ذلك متاعب الإخفاق.

لقد أبلى الملوك الأبناء الذين رحلوا رحمة الله عليهم سعود وفيصل وخالد وفهد ما استطاعوا ووفق مضمون الوصية. ولكن الظروف العربية والإقليمية والدولية والتداعيات الناشئة عن حروب ومواجهات وصراعات أحدثت الكثير من التريث في أمور عالقة في الأصل، وفي اهتمامات تنموية مرجأة. وعندما بويع عبد الله بن عبد العزيز وجد أن عامل الوقت والقدرات الصحية هو ما يجب مواجهة المؤجلات على أنواعها به. وعند التأمل في طبيعة حركته منذ الأسابيع القليلة الأولى لتوليه نراه واضعا أمامه، أو فلنقل مبرمجا لمضامين وصية الوالد المؤسس منفِّذا بهمة عالية ما حوته الوصية من واجبات يؤديها مَن يأتي دوره للقيادة، محاولا على ما يجوز القول أن يأتي التنفيذ سريعا وفي منأى عن التسرع، وتلك إحدى صفات عبد الله بن عبد العزيز القيادية.

في الوصية ذات المائتين وعشرين كلمة يطلب الملك المؤسس عبد العزيز من الابن الثاني ولي العهد سعود، ومن دون أن يغيب عن خاطره طيف الابن الأول تركي (الذي توفي من جملة آلاف قضت عليهم إنفلونزا حادة من بينهم الزوجة التي كانت ساكنة قلب الملك عبد العزيز، وهي الأميرة الجوهرة والدة الملك خالد الذي بويع خلفا للملك الشهيد فيصل) الآتي: «تفهّم أننا نحن والناس جميعا، ما نعز أحدا ولا نذل أحدا، وإنما المعز والمذل هو الله سبحانه وتعالى. من التجأ إليه نجا، ومن اغتر بغيره (عياذ الله) وقع وهلك. موقفك اليوم غير موقفك بالأمس. ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور: أولا ـ نية صالحة وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون ديْدنك إعلاء كلمة التوحيد ونصر دين الله. وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتا خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه في أوقات فراغك. فعُد إلى الله في الرخاء تجده في الشدة. وعليك بالحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر وصدق في العزيمة، ولا يصح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق وإلا العمل الخفي الذي بين المرء وربه. ثانيا ـ عليك أن تجدّ وتجتهد في النظر في شؤون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سرا وعلانية والعدل في المحب والمبغض وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطنا وظاهرا. وينبغي ألا تأخذك في الله لومة لائم. ثالثا ـ عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة وفي أمر أُسرتك خاصة. اجعل كبيرهم والدا ومتوسِّطهم أخا وصغيرهم ولدا، وهِن نفسك لرضاهم وامحُ زلّهم وأقِلْ عثرتهم وانصح لهم واقْض لوازمهم بقدر إمكانك. فإذا فهمت وصيتي هذه ولازمت الصدق والإخلاص في العمل فأبشر بالخير. أوصيك بعلماء المسلمين خيرا. احرص على توقيرهم ومجالستهم وأخذ نصيحتهم. واحرص على تعليم العِلْم ومعرفة هذه العقيدة. احفظ الله يحفظك. هذه مقدمة نصيحتي إليك والباقي يصلك إن شاء الله في غير هذا..».

عندما نستحضر، ومنذ الأسابيع الأولى لمبايعة ملكا ومبايعة أخيه الأمير سلطان ولياً للعهد، الحركة الدؤوبة داخليا وعربيا وإقليميا ودوليا بدءا باقتحامه أبعد البوابات الآسيوية الصين التي زارها ضمن جولة شملت الهند وباكستان وماليزيا، ثم الخطوة الداخلية الأكثر أهمية والمتمثلة باستحداث «هيئة البيعة»، ثم استصدار اللائحة التنظيمية لهذه الهيئة، فالحضور الدولي ممثلا للأمتين العربية والإسلامية في قمة العشرين، ونقرأ ما قاله في هذه المناسبات نجد أنفسنا نراه مستحضرا دائما مضمون وصية الوالد المؤسس. وعندما نتأمل في قلقه من استمرار صراع أبناء القضية الفلسطينية وكيف ترجم هذا القلق إلى محاولة تاريخية تمثلت بقمة الشقيقين المتخاصمين الأخ الفتحاوي والأخ الحمساوي في مكة المكرمة يأخذها شخصيا على عاتقه من حيث الرعاية والإكثار من التمنيات، وإلى حد أن الشقيقين أقسما على المصحف الشريف في لقائهما معه بأنهما طويا صفحة الصراع، نجده في ذلك ينفذ الوصية خير تنفيذ. أما أن ينكث الشقيقان الوعد وهما اللذان أقسما اليمين على كتاب الله، فإنه على الرغم من غلاظة قلبيهما أبقى على الجانب الفلسطيني من قلبه يخفق حرصا عليهما، فلا يترك جلسة لمجلس الوزراء إلا ويتمنى عليهما التنبه إلى فوضى سلوكهما. كما أنه عندما عقدت حركة «فتح» مؤتمرها العام أطلق نداءه الداعي إلى التوافق، موضحا في مضمون ندائه الطيب هذا أنه لا يميز بين فلسطيني وفلسطيني، أي بين هذا من «فتح» وذاك من «حماس» إلا من حيث التعقل والتنبيه إلى أنه حتى إذا اتفق العالم على حل القضية الفلسطينية فإن الحل مع استمرار هذا الصراع سيتلاشى ويستفيد العدو منه.

وإلى قلقه هذا هناك قلقه من استمرار الخلافات في الصف العربي والتي لولا وصفة التسامح التي أطلقها من اليوم الأول لانعقاد القمة الاقتصادية العربية في الكويت لكانت الحال العربية أسوأ بكثير مما كانت عليه. ولكنها الوصية وبالذات عبارة «اجعل كبيرهم والدا ومتوسطهم أخا وصغيرهم ولدا، وهِن نفسك لرضاهم، وامحُ زلّهم وأقل عثْرتهم وانصح لهم واقْض لوازمهم بقدر إمكانك» جعلت عبد الله بن عبد العزيز يتعالى عن إساءات ويمحو زلاّت لسان ولا يتأخر في علاج عثرات.

وعندما يجوب كل مناطق المملكة ويخص كل منطقة باحتياجات وتطوير مع تركيز على استحداث صناعات ومشاريع إنتاجية، بل ويعقد في جازان، التي كما سائر مناطق المملكة قلقة من الذي يحدث في اليمن، جلسة لمجلس الوزراء، وتلك لفتة غير مطروقة جعلت أبناء المنطقة يشعرون باعتزاز ما دامت جلسة مجلس الوزراء وبرئاسة مليكهم لم تعد تقتصر على الرياض وجدة والطائف وأحيانا المنطقة الشرقية، وإنما ها هي جازان المنسية أيضا تستضيف جلسة كما المدن الكبرى.. إنه عندما يفعل ذلك ويتوج عملية التطوير للمناطق بـ«جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية» التي هي هدية المملكة إلى مجتمع العلم والمعرفة والتكنولوجيا للسعوديين ولإخوانهم العرب والمسلمين ومن الجنسين، في الذكرى السابعة والسبعين لليوم الوطني فإنه بهذه الهدية ينفّذ في الألفية الثالثة وصية الوالد قبل ثلاث وسبعين سنة التي اختصرها طيَّب الله ثراه بعبارة «احرص على تعليم العلم».

وعندما يفتقد الملك عبد الله بن عبد العزيز الحضور البهي لأخيه ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز فيجعل من إجازته مناسبة لكي يتفقده ويطمئن عليه وهو في مرحلة التعافي في أغادير محاطا بأمير العائلة سلمان بن عبد العزيز، ويخف بعد ذلك معظم الإخوة والأبناء لكي يطمئنوا، الإخوة على الأخ والأبناء على العم والأحفاد على الجد، ويخف إلى هؤلاء كبار القوم العربي عموما والخليجي خصوصا، وبذلك لم تعد هذه الإطلالات على ولي العهد ذات طابع تفقُّدي وإنما هي للاشتياق إليه.. إن الملك عبد الله عندما يضفي هذه اللمسة الأخوية على ولي العهد في مرحلة تعافيه، فإنه بذلك يسجل أمثولة في التآلف تنسجم مع الروحية العامة للوصية.

وأما عندما يلبي الاحتياجات وينظر في أحوال الناس ويداوي الصدمة الناشئة عن محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف بزيارته في المستشفى، ويشد على يده من أجل الإبقاء على صفحة التسامح مفتوحة لا تُطوى نتيجة العملية الغادرة، ويُرفق شد اليد بتوسيم صدر الأمير الشاب بوشاح يحمل اسم جده الملك المؤسس، فإنه بذلك كمن يضيف إلى وصية الوالد الملك عبد العزيز طيَّب الله ثراه العبارة التي وردت في كلام أطلقه من قصر الصفا في مكة المكرمة يوم الأربعاء 16 سبتمبر (أيلول) 2009، ومفادها أن العفو هو العلاج حتى إذا تباطأ الغادرون في استيعاب رسالة التسامح، وأن الذي يحمي عقول الشباب من التيارات المضللة هو في «استراتيجية وطنية تمكّن الشباب من التعرف على الطريق الصحيح نحو العمل والتنمية وتنير عقولهم بقيم الوسطية والتسامح والإخاء التي يدعو لها ديننا الإسلامي الحنيف وتحميهم من الانجراف وراء التيارات الفكرية المضللة التي لا تريد لهذا الوطن الخير ولا الاستقرار وتحاول السيطرة على عقول بعض الشباب لثنيهم عن الدور المنشود منهم في مجال البناء والتنمية».

هذا بعض ما أعنيه من النكهة التراثية لمناسبة استحضاري الوصية ذات المائتين وعشرين كلمة لمناسبة اليوم الوطني السابع والسبعين.

أعاده الله على أصحاب اليوم الوطني بالخير. وأقول أصحاب على أساس أنه يوم كل العرب والمسلمين وليس فقط يوم السعودية.