أردوغان والحرب على التدخين

TT

رجب طيب أردوغان المنهمك في أكثر من مواجهة وحرب مشتعلة على أكثر من جبهة داخلية وخارجية تتطلب منه التركيز الكامل بسبب أهميتها وحساسيتها قرر، ودون سابق إنذار «توليع» خط تماس في غاية الخطورة، وتفجير الوضع الداخلي من خلال إعلانه الحرب على التدخين والمدخنين لـ«تصفيتهم» دون رحمة.

هذه المواجهة المفتوحة تحت شعار «انتصر انتصر» التي تتعارض بالكامل مع استراتيجيات وزير خارجيته، داود أوغلو، «صفر مشاكل مع الجيران» ليس سببها الرئيسي كون أردوغان رياضيا من الطراز الأول مارس لعبة كرة القدم لسنوات طويلة في فرق إسطنبول، بل الأرقام المخيفة التي وجدها أمامه حيال انتشار رقعة عمليات هذه الآفة وتغلغلها في قلب المجتمع التركي، 22 مليون مدخن من أصل 73 مليون نسمة تجعل من تركيا الدولة السابعة في العالم في هذا المضمار، و15 مليون علبة سجائر تستهلك في اليوم الواحد ضمن موازنة تعادل إنشاء 6 كيلومترات من الطريق السريع في البلاد يوميا، وإنفاق سنوي على التدخين يبلغ ضعف موازنة وزارة الدفاع، و4 أضعاف موازنة وزارة الصحة، و20 ضعف وزارة البيئة.

ومع أن «فرمان» أردوغان يختلف في الشكل والمضمون عن فرمان الإمبراطور العثماني مراد الرابع الذي أصدر وقتها أوامره بترك المدخنين بين خيارين، إما الوقوف عن التدخين أو الوقوف على منصة الإعدام متهما جماعات المدخنين في صفوف الانكشارية بالتسبب في حريق إسطنبول الشهير في عهده فإن أردوغان الذي ينفذ هجمات مباغتة في كواليس مبنى رئاسة الوزراء والبرلمان التركي بين الحين والآخر لإيقاف الفاعلين بالجرم المشهود لا فرق بين وزير ونائب أو موظف من الدرجة الأولى يبدو أنه لا يقل قساوة بالمقاييس العصرية للأمور.

نجاح رئيس الحكومة التركية في حربه هذه يقف من ورائها ترك الجميع أمام معادلة لا تتهاون أو ترحم «مكافحة التدخين لا تقل أهمية عن مكافحة الإرهاب». لا بل هو لا يكتفي بتوجيه النصائح واعتماد أسلوب الإقناع كما فعل مؤخرا مع أكثر من مواطن ومختار محلة أذابتهم السجائر، فسحب علب تدخينهم من جيوبهم ودون أسمائهم وتواريخ إقلاعهم عن التدخين الذي يبدأ مع اتفاقية اللا حول ولا قوة التي يلزمون أنفسهم بها في حضور أردوغان الذي يسلم، بدوره، العلبة إلى أحد مرافقيه لتأخذ مكانها في متحفه الشخصي، بل قام بـ«تجنيد» الكثير من الزوجات للإبلاغ عن أزواجهم إذا ما أخلّوا بتعهداتهم والتزاماتهم في هذه المعركة.

أملنا كبير أن لا يوسع أردوغان رقعة العمليات إلى خارج الحدود ويدفعه الحماس لسحب سجائر أحد القيادات أو الزعامات فيجد نفسه وجها لوجه أمام أزمة دبلوماسية لا نعرف كيف ستحسم.

معركة لا تقل خطورة وأهمية عن الكثير من الحروب التي تستعد لها حكومة أردوغان التي يبدو أنها نجحت لغاية الآن في حرب غير متكافئة مستخدمة المكان والزمان لصالحها، فأحد الشعارات التي تطاردنا من كل صوب «لا تحرقني يا بابا»، والمقصود طبعا أن لا يعرّض الآباء صحة أطفالهم للخطر بسبب سجائرهم هذه.

الحكومة مستمرة في حملتها هذه مستعينة بعشرات الرياضيين والفنانين والإعلاميين الأتراك، وغالبية الشعب التركي يدعم قانون حظر التدخين هذا، رغم وقوع حوادث فردية متفرقة، كما حدث مؤخرا في أحد حمامات النساء في مدينة أرضروم شرق تركيا، حيث دخلت النسوة في عراك انتقل إلى الشارع وحسمته الشرطة، رغم أن إحداهن حملت أردوغان «الذي بدل أن يعمل على توفير الخبز للناس ينصرف للاهتمام بهذه المسائل الثانوية»، المسؤولية المباشرة، أو كما فعل أحد أصحاب شركات النقل في مدينة ديار بكر المنتسب إلى حزب العدالة والتنمية، الذي سحب عضويته من الحزب «عشرات المشاكل التي نعيشها في البلاد، لم يجدوا سوى متنفسنا الوحيد، السيجارة، لحظرها وإعلان الحرب عليها».

أحد الإعلاميين الغاضبين كتب ينتقد ويحدد فوائد السجائر على النحو التالي: تمنع دخول اللصوص إلى المنازل لأن سعالهم سيوقظ أهل البيت، من يدخنها يظل شابا لأنه لن يعمر طويلا وهي تحمل اللون إلى وجهه لأن أسنانه وشواربه تبقى دائما صفراء.

أحد المشاهير الأتراك قال، مصعدا، إنه يرجح أن يدفع الغرامة على أن يتخلى عن سيجارته وهو يشرب القهوة، مع التذكير هنا أن الغرامة هي بجوار الأربعين دولارا في تركيا، وأنه لو قال مثل هذا الكلام في أيرلندا لكان دفع 3000 يورو، أو في إيطاليا لكان دفع 2000 يورو، وتعرض لعقوبة السجن لو أصر على موقفه.

تركيا بفضل قراراتها هذه التي بدأتها في مطلع تموز المنصرم نجحت في التخلص من الدمغة الحمراء التي رافقتها لسنوات طويلة من قبل منظمة الصحة العالمية، وارتفع موقعها في هذه الحرب 3 درجات دفعة واحدة لتأخذ مكانها في صفوف البلدان المتقدمة التي تحارب التدخين باللون الأخضر. لكن أحد الذين لا أمل في إقناعهم بأي حملة ترهيب وترغيب يقول «الخروف الميت لا حاجة له للخوف من الذئب»، ويسارع للاستنجاد بأرباب التدخين في العالم العربي لينقذوه من ورطته.. نفخ عليها تنجلي.

*كاتب وأكاديمي تركي