توطين العلم

TT

واحدة من الدراسات القيمة التي تعلق بالذهن ويصعب نسيانها، كانت في التسعينات على هامش أحد المؤتمرات للبنك الدولي، وتضمنت مقارنة بين منطقتي الشرق الأوسط والنمور الآسيوية في جنوب شرق آسيا على اعتبار أن المنطقتين كانت في مركز واحد تقريبا في الوضع الاقتصادي والتنموي في الستينات، ثم بدأت المسافة تتسع بشكل كبير ليصبح عدد من دول شرق آسيا على نفس طاولة الدول الصناعية المتقدمة وسجلت قفزات نمو هائلة تضاعفت فيها مستويات الدخول، بينما لم تستطع منطقة الشرق الأوسط كسر الحاجز وظلت تراوح مكانها إن لم يتأخر بعضها رغم الموارد الاستثنائية من عائدات النفط التي لم تتوفر للنمور الآسيوية.

الفارق الأساسي الذي وجدته الدراسة في خلاصتها بين المنطقتين لم يكن سياسيا أو ايدولوجيا، ولكن شرق آسيا استثمرت بشدة في التعليم، إضافة إلى أنها لم تمس مسألة حرية الملكية الفردية.

وحتى لا نقع في فخ جلد الذات الذي لا يؤدي إلى شيء سوى البؤس والاكتئاب فإن الإنصاف يقتضي تسجيل أن الكثير حدث في العقود الأخيرة رغم العواصف السياسية والحروب الداخلية والخارجية والإرهاب إلى آخره، وهي كلها أمور لابد أن تؤدي إلى نكسات في عملية التنمية، وتحديث المجتمعات، فقد بنيت الكثير من المشروعات.. مصانع ومشروعات صناعية ومراكز تجارية وموانئ وجامعات ومستشفيات.. وسجلت بعض أجزاء المنطقة تحسنا ملحوظا في مستويات المعيشة.

مع كل هذه الجهود ظلت هناك فجوة واسعة لها تأثيرها النفسي والسياسي مؤدية إلى شعور بالدونية أمام بقية العالم، فليس هناك الكثير مما يمكن أن تدعيه المنطقة في إسهامات العلوم والتكنولوجيا والثورات المعلوماتية التي باعدت المسافات أكثر بين مناطق العالم اليوم، والمنطقة هي في أحسن الأحوال مستهلكة ومستوردة لإنجازات العلوم مثل مستخدم السيارة يستطيع قيادتها، ولكنه ليس بالضرورة يعرف ما في داخلها.

نعم كانت هناك خطط تنمية وتحديث وتوسع في التعليم، ولكن المشكلة في نمط التنمية في الكثير من دول المنطقة لم يتضمن منهجا أو استثمارا واضحا يضمن توطين العلم والأبحاث ليكونا جزءا أساسيا من نسيج الاقتصاد الوطني والمجتمع، وتفريخ العقول.

من هنا فإن مشروع جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية التي ستفتتحها السعودية هذا الأسبوع لتكون جامعة متخصصة في الأبحاث يكتسب أهمية خاصة، من كونه استثمارا حقيقيا في العقول، وفي توطين العلم، خاصة أنها تقام بفكر جديد سواء من حيث التمويل عن طريق وقف بعشرة مليارات دولار يضمن استمراريتها بإمكانياتها الذاتية، أو من حيث اجتذاب خبرات عالمية لهيئة التدريس وفتحها للطلاب من مختلف أنحاء العالم مع الطلاب السعوديين.

ومثل هذه المشروعات العلمية قد لا يكون لها لدى رجل الشارع العادي نفس إبهار وبهرجة إقامة مركز تجاري ضخم أو ناطحة سحاب، والعائد منها غير مباشر ويحتاج إلى وقت، لكن تأثيرها ومردودها يفوق أي شيء آخر ويعادل عشرات الناطحات، لأنها عبارة عن مصنع عقول ستبني وتحدث وتنور مستقبلا، تنعكس ايجابيا على مجتمعها، وتسهم بشكل إيجابي مع بقية العالم في مسيرة العلوم والتكنولوجيا، والأبحاث الخاصة بها. وهو مشروع يستحق أن يحتذى لأن المنطقة تحتاج إلى العديد من الجامعات من هذا النوع.