التدمير النفسي والمادي للمجتمع المدني

TT

يقبع «حاتم طي» في سجن الدولة اللبنانية. لكن الألوف من ضحاياه يعيشون في سجن أوسع. سجن رهيب لطائفة تشكل شريحة كبيرة في المجتمع المدني في لبنان. سجن يحمل مفاتيحه وأختامه حزب ديني، ويسخر الناس المسجونين فيه، لخدمة وطن آخر، له لغة وثقافة ومرجعية ومصالح مختلفة تماما.

حيث الناس في لبنان يجري تقييمهم وقياسهم بالدولار، فهؤلاء الضحايا هم في الواقع وقود لحرب تُشن على المجتمع المدني في العالم كله، لتدميره نفسيا وماديا. حرب تديرها قوى عالمية ومحلية، قوى مالية ومصرفية وسياسية وحزبية، لا فرق بين مجتمعات تعيش في بحبوحة الثراء أو في غياهب الفقر، ولا تمييز فيها بين مجتمعات مدنية محكومة بالديمقراطية، أو بالديكتاتورية، أو رهينة تنظيمات دينية أو راديكالية.

ما هو المجتمع المدني في الفلسفة المثالية؟ إنه المجتمع السلمي الذي يشعر بالأمان. مجتمع القانون والنظام والعدل. مجتمع الكفاية الموفر للخبز والغذاء. مجتمع الدولة الحانية. مجتمع المكاسب والتقديمات والضمانات المعاشية والتقاعدية والصحية والتربوية. مجتمع المساواة التي ترعاها المؤسسات المشروعة، رسمية وقضائية وسياسية. المجتمع المدني يملك حدا أدنى من الحرية والمسؤولية، حرية المحاسبة والمساءلة والحوار. مجتمع المنافسة الحرة في العمل السياسي والاقتصادي والاعتقاد. مجتمع الحريات الشخصية بلا خوف أو تدخل وإكراه وترويع، أو تعدٍّ على الحريات العامة.

صلاح عز الدين الذي تنكر طوال حياته وراء أريحية حاتم طي، متهم اليوم بتبديد مليار دولار من مال الطبقتين الفقيرة والوسطى في المجتمع المدني الشيعي. كانت ثقة «حزب الله» به وتعامله معه ضمانا له لدى الألوف من أبناء الطائفة. بعضهم استدان ليستثمر في حاتم الحزب. بعضهم رهن عقاره أو حقله. بعضهم باع حلي امرأته وبناته. بعضهم ضحى بمدخراته. نقلها من المصرف شبه المأمون، إلى الصيرفي المغامر غير المضمون، طمعا في فائدة تبلغ نحو 40 إلى 50 في المائة.

الدمار ليس ماليا وماديا فحسب. حدث دمار نفسي ومعنوي للمستثمرين الفقراء ومحدودي الدخل. اكتشف الضحايا سذاجتهم وجهلهم بأسرار الرأسمالية المصرفية والصيرفية. أصيبوا بصدمة نفسية. انكسار صامت أمام حزب لا يقوون على محاسبته. ولا يجرؤون على مس معصوميته وقداسته.

المجتمع المدني هنا ضحية الإقصاء الذي مارسه الحزب، بإبعاده عن الدولة، بتقديم الحزب بديلا لها. المجتمع تعرض لعملية غسل دماغ. أسفرت العملية عن الاستسلام النفسي «للطهارة» الحزبية، وللشمولية الأيديولوجية التي لا تسمح بتعددية سياسية وثقافية تخترق الطائفة، كما اخترقت سائر الطوائف الأخرى.

كل ذلك، وذكريات التضحية بالمجتمع المدني الشيعي خلال حرب 2006 ما زالت مؤلمة. صدر الأمر للحزب من طهران بخطف عساكر إسرائيليين، للضغط على إسرائيل لمعرفة مصير أربعة دبلوماسيين إيرانيين، قيل إن «القوات اللبنانية» المسيحية سلمتهم للإسرائيليين خلال غزوهم لبنان في الثمانينات. قدم المجتمع المدني الشيعي 1200 ضحية على مذبح إيران وإسرائيل.

من تدمير المجتمع المدني في لبنان، إلى تدمير المجتمع المدني الفلسطيني في غزة. كان مجتمع غزة ضحية عقيدتين قتاليتين تتفقان على إنزال الدمار المتعمد في السكان المدنيين وبناهم الأساسية. العقيدة الإسرائيلية تستخدم الآلة الحربية المتفوقة، في إنزال أكبر خسائر بشرية ممكنة، وتخريب المصانع والمدارس والمشافي والطرق والأرض الزراعية والمباني الحكومية.

أما العقيدة القتالية لدى التنظيمات الدينية، فهي تتراوح بين القتل الجماعي للسكان المدنيين، بحجة جاهليتهم، والتضحية بهم، بلا مبالاة تذكر، في مواجهة عدو شرس وهمجي، ومتفوق عسكريا وتقنيا. كانت الفرصة مهيأة أمام مجتمع غزة للتنمية والرفاهية، بعد إكراه الإسرائيليين على الانسحاب وتصفية الاستيطان. اختار شيوخ حماس الاستمرار في «الجهاد»، لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، في ظروف بائسة وغير ملائمة، ظروف حصار غزة، وكارثة انفصال «حماس» عن الوحدة الوطنية والشرعية الفلسطينية.

كانت نتيجة الحرب درسا مؤلما: تُهادن حماس اليوم إسرائيل. تمنع حلفاءها من قصف الصواريخ. عدَّل الشيخ خالد مشعل موقفه. انتقل من رفض الهدنة قبل الحرب، إلى القبول بها، بل بإسرائيل دولة تحتل أربعة أخماس فلسطين (عشرين ألف كيلو متر)، في مقابل دولة فلسطينية على الخُمس الباقي.

عقيدة التدمير الإسرائيلية للمجتمع المدني العربي هي نتيجة تربية المجتمع المدني الإسرائيلي العنصرية والدينية: كراهية العرب، واعتبارهم دون اليهود. ثم اللجوء إلى الحكاية الدينية لدعم «مشروعية» الاستيلاء على الأرض وطرد السكان. مجتمع مدني قائم على العنصرية والكراهية هو الذي يشجع جيشه على تدمير المجتمع المجاور بالإبادة والتصفية وحرمانه من الخدمات الضرورية للحياة الحديثة. شكل المحتال أولمرت، قبل بدء الحرب، لجنة خبراء لحماية الضباط والجنود من أية مساءلة دولية، إذا ما ارتكبوا جرائم حرب. الحاخامية العسكرية وزعت عليهم منشورات تقول «أحيانا، هناك حاجة لأن يكون المرء وحشيا مع العدو».

وهكذا، لم يكن هدف الحرب تحقيق نصر عسكري بإسقاط حماس. تم الإبقاء عليها لتظل السلطة متمردة ومستقلة بغزة. كان الهدف الحقيقي إنزال الدمار النفسي والمادي بالمجتمع المدني: قُصفت المدارس والمساجد. ودُمرت المباني السكنية والحكومية والمصانع وآبار ومحطات المياه. استعان الجيش بخرائط وكالة الإغاثة الدولية لقصف اللاجئين إلى مؤسسة الوكالة. استخدمت الذخائر المحرمة دوليا. قصفت المدافع بيتا نقلت إليه أسرة السّموني الكبيرة، فقتلت 30 امرأة وطفلا. مُنعت سيارات الإسعاف من الدخول. بعد أيام من الوصول، عثر المسعفون على أربعة أطفال أحياء يلوذون بأحضان أمهاتهم القتيلات.

الضمير العالمي غفا وسها عن 1200 مدني قتلوا في حرب إسرائيل على لبنان (2006). غفا وسها وصحا متأخرا على حرب البلقان ورواندا. لم يصحُ بعد على مجازر المجتمع المدني في العراق وأفغانستان. يقظة الضمير انتابت قاضيا ترأس لجنة تحقيق دولية في مجازر غزة. أدان القاضي إسرائيل. طالب مجلس الأمن بإحالة القادة والضباط من مجرمي الحرب إلى محكمة الجرائم الدولية، خلال ستة أشهر، إذا لم تشكل إسرائيل لجنة تحقيق مستقلة.

القاضي ريتشارد غولدستون لا تستطيع إسرائيل اتهامه باللاسامية. فهو يهودي من جنوب أفريقيا. لكن له سمعة محترمة كقاض ومدّع عام ضد مجرمي الحرب من الصرب في البلقان. كم العرب بحاجة إلى نزاهة مماثلة وشجاعة رائعة في القضاة العرب. أما القاضي أوكامبو الذي جرَّمَ الرئيس السوداني عمر البشير في دارفور، فقد رفض مائتي طلب من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والعربية والإسرائيلية والعالمية، لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، بحجة افتقاده «الحجة القانونية» لإقامة الدعوى.

حروب القرن الحادي والعشرين، بين قوات النظام العالمي وقوى العنف الديني، تعرض المجتمع المدني إلى مزيد من الخسائر البشرية، لم يعهدها إلا في الحروب العالمية. السبب هو اختفاء «المجاهدين» في طيات المجتمع السكانية، بلا مبالاة بخسائر في لبنان وغزة والعراق وأفغانستان وباكستان، بل هم يشنون عليه حربا عقابا على «جاهليته»، في حين تلجأ القوات الدولية إلى الثأر لقتلاها بقصف المجتمع المدني، أو لإبادته مع المقاتلين المكره على إيوائهم.