الخروج من دوامة القتل والدمار رهين بإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية

TT

ليس ثمة شك في ان المشاعر الدينية والقومية والعرقية تمثل لدى الغالبية مصدرا رئيسيا للهوية والكبرياء واساسا يمكن الاعتماد عليه في خدمة المصلحة العامة. ولكن شأنها شأن بعض العقاقير، التي يؤدي استخدامها على نحو معتدل الى العلاج المطلوب والشفاء ويؤدي الافراط في تناولها الى التسمم وحتى الموت، فإن هذه المشاعر يمكن ان تتحول الى قوى قاتلة وخطر يتهدد أسس وركائز الوجود المتحضر، كما حدث في رواندا والبوسنة وكوسوفو.

غير ان افضل نموذج في نظري هو النزاع الفلسطيني الاسرائيلي الذي اقعدت انفعالاته مقدرة الطرفين على التفكير العقلاني حول سلوك ومصالح كل منهما في ظل موجة العنف المدمر التي دخل فيها الطرفان.

ينبغي ان يكون واضحا لدى ياسر عرفات والفلسطينيين بصورة عامة ان اكبر عقبة حتى الآن في سبيل اقامة الدولة الفلسطينية تتمثل في مقدرة اليمين الاسرائيلي، الذي يسيطر على السلطة في الوقت الراهن، على تخويف الاسرائيليين زاعمين ان مثل هذه الدولة لن تكون سوى قاعدة انطلاق للمزيد من الارهاب الفلسطيني داخل اسرائيل، علما بأن نسبة كبيرة من الاسرائيليين تريد قيام دولة فلسطينية مقابل السلام.

ولكن بدلا عن معالجة هذه المخاوف بصورة مباشرة والعمل على تبديدها ـ مثلما فعل السادات عندما خاطب الكنيست الاسرائيلي عام 1979 ـ بالتأكيد على قبول الفلسطينيين واحترامهم لسيادة اسرائيل داخل حدود ما قبل حرب يونيو (حزيران) 1967 حتى وإن كانت هناك حاجة الى وقت اطول لتسوية الخلافات حول قضايا مثل القدس واللاجئين، فإن عرفات ضاعف من مخاوف الاسرائيليين بفشله في تقديم مثل هذه التأكيدات.

في واقع الامر ادلى عرفات بمثل هذه التصريحات في اوقات سابقة، غير ان هذه التصريحات لم يكن لها تأثير وذلك لسببين. أولا، لم يحدث ان ادلى عرفات بهذه التصريحات في مناسبات لها الوزن والمصداقية اللازمتين لكي تكون لهذه التصريحات آثار فاعلة. الأسوأ من ذلك، ان عرفات قال وفعل اشياء ـ مثل الاحتفال بـ«شهادة» ارهابيي حماس ـ من شأنها ان تقود اكثر الناس اعتدالا الى التشكيك في مصداقيته. غير ان انتقاد عرفات يعتبر الجزء الأكثر سهولة خصوصا في الولايات المتحدة، حيث يمثل هذا النقد روتينا يوميا للعديد من المنظمات اليهودية المتنفذة. هذه الانتقادات لوحدها تشكل جزءا فقط من الواقع وتشوه صورة الواقع الحقيقي. اما الجزء الآخر، المتمثل في دور اسرائيل في نزيف الدم المستمر، فإما يجري تجاهله تماما أو تبريره، رغم ان هذا الدور يعد، مقارنة بالدور الفلسطيني، الأكثر تأثيرا في تحديد نهاية هذه الحرب الممتدة على مدى نصف قرن.

التأكيد على هذه الحقيقة البسيطة لا يعني سوى اثارة سيل من الغضب والافتراء من طرف العديد من الدوائر في الولايات المتحدة واسرائيل. غير ان الحقيقة هي انه بصرف النظر عن الاعتداءات التي ارتكبت سابقا وبصرف النظر عن الطرف الذي يتحمل العبء الاكبر من مسؤولية هذه الاعتداءات، فإن اسرائيل هي التي تمارس اليوم الاحتلال والضغط على ثلاثة ملايين فلسطيني. كما ان عدم اهتمام السلطة الوطنية الفلسطينية أو حتى تشجيعها لإرهاب حماس والجهاد الاسلامي لا يغير حقيقة الواقع المتمثل في ان الفلسطينيين ضحايا لآخر مشروع استعماري في العالم، وهو مشروع استعماري لدولة تريد ان ينظر اليها العالم كونها نموذجا للديمقراطية. وحتى اذا صحت اسوأ الافتراضات لدى الكثير من الاسرائيليين حول الفلسطينيين، فإن ذلك لا يعتبر بأية حال مبررا يسمح لاسرائيل بقمع شعب بكامله وحرمانه من التطلع للعيش في حرية. هذا النوع من القمع ترفضه تماما كل المجتمعات التي تقبل حقوق الانسان الاساسية كأساس للوجود المتحضر. اما ما هو غير مقبول، فيتمثل في اصرار اسرائيل على انها هي التي ينبغي ان تحدد للفلسطينيين شكل الدولة التي يمكن ان يحصلوا عليها وأصولها.

كان لاسرائيل فيما مضى مخاوف تعتبرها منطقية تجاه قيام دولة فلسطينية، غير ان ذلك كان قبل وقت طويل. هذه المخاوف تستغل في الوقت الراهن داخل اسرائيل لتبرير الاستيلاء بصورة منتظمة على الاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. لعله من السخرية افتراض تعرض وجود اسرائيل للخطر في مواجهة دولة فلسطينية صغيرة وضعيفة على حدودها الشرقية اذا اخذنا في الاعتبار قوة اسرائيل العسكرية في المنطقة، خصوصا ان هذه القوة العسكرية هي السبب في امتناع جيران اسرائيل، منفردين او جماعة، عن انتهاك حدودها خلال العقود السابقة. كما ينسى الكثيرون ان ديفيد بن جوريون نادى باعادة كامل الضفة الغربية وقطاع غزة مقابل اتفاق سلام وذلك قبل وقت طويل من بناء اسرائيل لقوتها العسكرية الى ان وصلت الى مستواها الحالي. فقد كان بن جوريون يعتقد حتى في ذلك الوقت انه ليس هناك اساس للتخوف من الوجود الفلسطيني في هذه الاراضي.

تواجه اسرائيل خطرا يتعلق بوجودها، غير ان احتلالها المستمر هو الذي يشكل هذا الخطر. وكما تعلمت الولايات المتحدة في فيتنام، فحتى الدول الاكثر قوة في العالم يمكن ان تتعرض للهزيمة من جانب الشعب المصمم على نيل استقلاله الوطني. يمكن ان تستمر اسرائيل في فرض المزيد من العقاب والذل على الفلسطينيين مثلما فعل شارون وحكومته برفع العلم الاسرائيلي فوق بيت الشرق واحتلال اجزاء من مدينة ابو ديس التي ظلت تنظر اليها الحكومات الاسرائيلية السابقة منذ اوسلو كونها عاصمة مستقبلية للدولة الفلسطينية. حتى بنيامين نتنياهو لم يمنع السلطة الفلسطينية من تشييد مركز جديد للحكومة ومبنى للبرلمان في ابو ديس. كل من اوتي اقل قدر من الادراك يعرف تماما ان الذل والاستفزازات هذه لا تقود إلا الى اثارة الغضب الفلسطيني الذي سيؤدي بدوره الى المزيد من الضحايا في اوساط الاسرائيليين. بوسع اسرائيل زيادة العقاب الذي تفرضه على الفلسطينيين، غير ان اجراء انتقامياً يؤدي الى ظهور كوادر جديدة من انتحاريي «حماس». كما ان الفلسطينيين، الذين اكتسبوا خبرة وتجربة طويلتين في العيش تحت ظل ظروف الفقر وتحمل الاجراءات العقابية الاسرائيلية، سيتفوقون على الاسرائيليين في تحمل العواقب المأساوية للعنف. ليس ثمة شك ان تعرض اسرائيل للخطر سوف يزداد في ظل احتلال القوات الاسرائيلية مجددا لأجزاء من الضفة الغربية، اذ انها توسع بذلك من حجم تعرضها للهجوم من الطرف الآخر.

ليس ثمة مخرج من دوامة الدمار والموت الحالية الا اذا بدأت اسرائيل، وهي الطرف الاقوى، تنظر الى كيفية وضع نهاية للحماقة التي تورطت فيها قبل ان تضعف معنويات الاسرائيلين على نحو يؤدي الى انهاء قصة الدولة اليهودية، بدلا من تفكيرها في كيفية تحسين طرق معاقبة الفلسطينيين. الاجابة على هذا السؤال واضحة لأي شخص لا تعميه العواطف الدينية والعرقية التي تسيطر الآن على المقاتلين، وهي تتخلص ببساطة في «انهاء الاحتلال». يجب ان تتوقف محاولة السيطرة على حياة ثلاثة ملايين فلسطيني سيشكلون خلال عشر سنوات اغلبية عربية مطلقة بين نهر الاردن والبحر المتوسط عند الانضمام الى اخوانهم العرب في اسرائيل.

الدرس الذي يمكن ان يستخلص من تصعيد العنف واضح. انقاذ اسرائيل وخروجها من اوضاع التوتر والنزاع يكمن في قيام دولة فلسطينية. وفي كل الاحوال، فإن الفلسطينيين سيحاولون لجم «حماس» اذا توفر لديهم من الاسباب ما يجعلهم يعتقدون ان وقف العنف سيؤدي الى مكاسب سياسية محددة. اما سياسة شارون الرافضة للدخول في أي مناقشات سياسية مع الفلسطينيين الا في حالة وقف العنف، فلا تؤدي إلا الى التأكيد على استمرار العنف نفسه.

* كاتب أميركي وزميل بمجلس العلاقات الخارجية الاميركية