كيمياء الحكاية

TT

صدق او لا تصدق، فقد انهى باولو كويلو رواية «الخيمائي» بعبارة: يا فاطمة انا قادم، وهي من العبارات التي تسمعها في كل الافلام المصرية السخيفة التي تنتهي بـ «احمد... منى...» ويلتقي العاشقان في المطار، ومع تلك الخاتمة التقليدية للخيميائي واسلوبها السردي العتيق، فإنها لا تزال من أفضل الروايات مبيعا بكل اللغات، فأين المعجزة ايها التجريبيون الأفاضل..؟

ان قوة تلك الرواية تنبع من قدرتها، ومن اصرارها الجميل على تكريس الحلم الانساني النبيل، فبطلها مراهق حالم، حلم بأن كنزه ينتظره عند هضبة الهرم، وجاء ملك سيلم الخرافي ليخبره ان متابعة الحلم اهم عمل في حياة الانسان، فعندما نريد شيئا حقيقيا بصدق وعمق، تتآمر جميع كائنات الوجود معنا لتحقيق احلامنا.

وهذه العبارة عن تآمر اشياء العالم مع الحالمين الحقيقيين، ستتكرر كثيرا على مدار تلك الرواية الممتعة التي حملت صبياً اسبانياً يعمل في رعي الاغنام، من طنجة الى الفيوم ليعبر الأهوال في سبيل تحقيق حلمه، وليقف في واحة صحراوية قبل الوصول الى مصر ويقع في حب صبية بدوية قابلها على بئر من الآبار الـ 300 التي تضمها تلك الواحة التي تحتفي بالنخيل وتزرع خمسين الف نخلة مثمرة، لتكمل ديكتور الحلم، وتساعد على تخصيب وتفاعل كيمياء الحكاية.

واذا جاء الحب والنخيل، فلا بد من قمر تراه في الصحراء مليئا بنور البرتقال ومشبعا بالرومانسية، لكن العرب كعادتهم تحت ضوئه، يقتتلون لأسباب غير مفهومة، فالمراهق الاسباني يفهم لغة الوجود الخفية، ويعجز ـ ومن يلومه ـ على فهم لماذا يتقاتل العرب..؟

وكما في فيلم «لورانس العرب» الذي يعجز فيه اوليفييه عن فهم مصطلح «مكتوب» الى ان يموت الرجل الذي انقذه من الموت عطشا ليقتله بمسدسه، فإن الصبي الاسباني الذي سرقوه في طنجة المغربية وضربوه في مصر، يظل حائرا في استيعاب ذلك المصطلح القدري والعربي بامتياز، الى ان تحصل له مجموعة مصادفات عجيبة تجعل منطق «مقدر ومكتوب» يتحكم به في الحب والمعرفة والذهب، فقد حملته اقداره الى الهرم بحثا عن كنزه الذهبي، وهناك وجد من يدله صدفة على كنزه الفعلي الذي نام فوقه في كنيسة عتيقة ولم يتنبه لوجوده تحت رأسه... مقادير...!! والرواية تأخذ اسمها من البطل الثاني، ففي الصحراء الغربية المحاطة بالقداسات، يقطن ساحر يشتغل بالكيمياء، ويعرف وصفة تحويل المعادن الخسيسة الى ذهب. وكان على ذلك الساحر ان يرافق المراهق الى ذهبه المطمور، ويكمل المهمة التي بدأها الملك العجوز في الاندلس، الذي طلب عُشر قطيع الراعي ليدله على الطريق الموصلة الى الكنز والحلم الذي مهد للوصول اليه عدة اشخاص. ونقطة ضعف الرواية انهم جميعا حكماء وليس بينهم أحمق واحد.

ومع الوقت نكتشف ان الذهب ليس ضروريا، فالصبي تعلم من الساحر، والملك العجوز، وقائد الجمل في القافلة التي عبرت به الصحراء، ان هناك ما هو اهم من المعادن النفيسة، وهو معرفة روح الكون واحترام قوانينها الصارمة، وهذا ما لم يستوعبه الكيميائي الانجليزي الذي رافق الصبي في القافلة، وجعل همه الوحيد تحويل المعادن الخسيسة الى معدن نفيس.

ولأن القدر يسيّر كل شيء حتى قلم الكاتب، فلا ضرورة لحبكة معقدة، ولا لتجريب اساليب مستحدثة، فالسرد تقليدي، وضمير الغائب يسيطر على الرواية من اولها الى آخرها، فالقارئ فيها لا يبحث عن غرائبيات اسلوبية انما عن عمق فكري وفلسفي يعيد الى مذهب وحدة الوجود، فلكل كائن وشيء وظيفة تكمل وظائف بقية الكائنات، والاصلح للبقاء وتحقيق الاحلام هو ذاك الذي يترفع عن الماديات والغرائز من دون ان يناصبها العداء او يعجز عن فهم دوافع ومحركات مرتكبيها، فالناس كالمعادن فيها القليل من النفيس والكثير من الخسيس.

واشهد ان من البيان لسحرا، وان من البساطة لمعجزة، فباولو كويلو في اسلوبه بسيط ومتقشف ومتواضع، لكن أليست البلاغة كما قال العرب ذات يوم انها تلك التي اذا سمعها الجاهل ظن انه يتقنها؟

ان ذلك الاسلوب النادر هو الذي جعل من رواية تبدأ بعبارة «الولد اسمه سانتياغو»، وتنتهي بعبارة «انا قادم يا فاطمة»، علما وظاهرة في الساحة الروائية العالمية، فهل نتعلم من ذلك الرجل درسا يغني روائيينا عن الفذلكة والتجريب والتقعر، ويدخلهم الى ملكوت البساطة صاغرين...؟

انهم بحاجة الى الحب ليتعلموا من ذلك حب الآخرين قبل حب انفسهم، فالحب طاقة صاهرة، فيها كل خصائص الكيمياء، ومن لا يحب الكون بشجره ورماله وانهاره وقمره، يعجز بالتأكيد عن ان يعبر ببساطة معجزة، عن قصة حب صافية.