بشار الأسد... ذلك الوسيط الواقعي؟

TT

في ضوء الزيارة التي قام بها رئيس وزراء سورية محمد مصطفى ميرو الى العراق يوم السبت 11/8/2001 والتصريحات التي ادلى بها يوم وصوله ثم بعد لقائه بالرئيس صدام حسين، فضلاً عن الكلام الذي سمعه المسؤول السوري من الرئيس العراقي بعدما كان اهداه السيف السوري الاثري... في ضوء ذلك لا يستبعد المرء ان يقوم الرئيس بشار الأسد بمبادرة تستهدف ايجاد ارضية جيدة لمصالحة واقعية بين العراق والكويت، ولتطبيع واقعي في العلاقات بين العراق وايران الخاتمية بعدما استقر امر الوفاق والتعايش بين صقور مؤسساتها، ولتطبيع مماثل بين ايران ومصر ينهي ظاهرة التحديات التي تتسم بها العلاقات بين الدولتين بسبب شارع في طهران اطلقت عليه السلطات الثورية الايرانية من باب النكاية اسم «شارع الاسلامبولي» تكريماً منها للشخص الذي اغتال الرئيس انور السادات، رداً على احتضان السادات للشاه محمد رضا بهلوي الذي استقر بجثمانه المقام في تراب مصر بعدما رفضت اقامته كحاكم معزول يتلوى من المرض ويقترب من الاحتضار كل دول العالم وبالذات الولايات المتحدة التي كان رمز قوتها في منطقة الشرق الأوسط. وقد تعمقت مشاعر التحدي بحيث بات شارع الاسلامبولي مثل الفتوى الخمينية في شأن سلمان رشدي، أي من الصعب اعادة النظر فيها لأن معنى ذلك ان الفتوى كانت غير ضرورية وهذا من الصعب حدوثه إلاَّ بفتوى تلازم تلك الفتوى تجيز اعتماد المرونة في ما اراده الخميني امراً غير خاضع للنقاش والاجتهاد. ووسط هذا التجاذب لا تعيد مصر العلاقة مع ايران إلاَّ اذا الغت السلطة الثورية في ايران تسمية ذلك الشارع.

جاءت زيارة رئيس الحكومة السورية الى بغداد في اعقاب خطوات نوعية على الصعيد الاقتصادي وضمن رؤية جديدة تقوم على ان تكون العلاقات ذات الطابع التجاري والاقتصادي هي المدخل الى العلاقة الجيدة على المستوى السياسي، اي بما معناه انه بدل الانتظار الى ان يحدث تمتين روابط العلاقة على المستوى السياسي وبعدها تبدأ ترجمة هذه الروابط اقتصادياً وتجارياً، فإن العكس هو الاكثر يسراً. بل من الممكن القول ان القيادة السياسية تبذل الجهد الخارق للمحافظة على العلاقة اذا كان الوضع الاقتصادي قوياً ويعود بأجزل الفوائد على الشعب، في حين انه في حال لم تكن العلاقة على الصعيد الاقتصادي والتجاري جيدة فإن ازمة بسيطة يمكن ان تجعل هذه القيادة او تلك في هذا البلد او ذاك، تتخذ قراراً من بضع كلمات يؤدي الى القطيعة وإقفال الحدود وربما اكثر من ذلك. وبعد هذا القرار وفي ضوئه تتكاثر التحديات والاستفزازات والتحرشات والحملات الاعلامية ويدفع الشعبان الثمن نتيجة ذلك. وهذا تماماً ما حدث بين العراق وسورية على مدى عقدين من الزمن، فضلاً عن ان القطيعة السياسية جعلت الحذر والريبة والشك هي الارضية التي تُبنى عليها العلاقة بين شقيقين.

كان التمهيد لزيارة رئيس الحكومة السورية مدروساً. في البداية حدثت زيارات على مستوى رجال الصف الثالث ثم على مستوى وزراء ينتسبون الى «اهل الثقة» في النظامين. وبعد فتح الحدود وكسر الحصار الجوي تطورت الامور نحو الافضل الى ان تم التوصل الى اتفاقات تجارية واقتصادية شجعت القيادتان على دعمها. وعندما زار طه ياسين رمضان نائب رئيس الجمهورية العراقية دمشق ووقّع اتفاقاً مماثلاً للاتفاق الذي سبق ان عقده العراق مع مصر، تأكد ان البلدين سائران نحو علاقة جديدة قد يكون من الصعب، في حال استكملت مقوماتها، فصم عراها. وابرز المقومات هو التعامل على قاعدة عريضة من الإقرار الواقعي بالأحوال، والتواضع الى ابعد الحدود، وتقديم مصلحة الوطن على عنفوان الذات، وإعادة النظر في الكثير من المفاهيم وحذف الكثير من المفردات وطي الكثير من الصفحات.

ذهب رئيس الحكومة السورية محمد مصطفى ميرو الى بغداد في شكل موكب وليس في شكل وفد. موكب جوي نصفه رسمي ونصفه الآخر قطاع خاص وهو امر لم يكن يحدث في الماضي حيث كان الذين يتزاورون هم فقط اهل الحكم مدنيين وعسكريين. ومشاركة القطاع الخاص متمثلاً بتجار وصناعيين في زيارة رئيس الحكومة السورية اعادت الى الاذهان ذلك الابتكار للرئيس حسني مبارك عندما بدأ قبل تسع عشرة سنة عملية تطوير الوضع الاقتصادي وكيف انه في معظم زياراته الى الخارج كان يصطحب عدداً من ممثلي القطاع الخاص، فيضفي هؤلاء على الحكومات في الدول التي يزورها الرئيس اجواء مريحة، ويخرج المسؤولون في تلك الدول بانطباعات خلاصتها أنه ما دام رئيس مصر يؤمن بدور القطاع الخاص وإلى درجة اصطحاب ممثلين عن هذا القطاع عندما يقوم بزيارات الى دول العالم فهذا معناه ان الحكم سيستقر ويستوجب ذلك تشجيع هذا الاتجاه.

وقد يجوز القول ان فرحة المواطنين في كل من سورية والعراق بهذا الترابط الاقتصادي بين القيادتين، تكاد تكون بأهمية فرحة السوريين والمصريين عندما قامت الوحدة بين الدولتين، مع الفارق انه لو سبقت تلك الوحدة خطوات مدروسة على الصعيد الاقتصادي والتجاري لكان ربما من الصعب ان يجد الانفصاليون مريدين لهم ومحبذين لفعلهم الانفصالي. ولولا ثقة القيادتين العراقية والسورية بأهمية هذا الترابط وارتياح الرأي العام في البلدين الى حدوثه، وبعد قطيعة استمرت عقدين من الزمن لما كان من الممكن سماع هذه التصريحات يدلي بها رئيس الحكومة السورية الزائر وهذه الاقوال المنسوبة الى الرئيس صدام حسين. ومن التصريحات التي يستوقف المرء سماعها قول رئيس وزراء سورية «ان التعاون والعمل المشترك بين العراق وسورية يصب في صالح البلدين وشعبيهما الشقيقين وفي تعزيز التضامن العربي وتقويته للوقوف مع الشعب الفلسطيني في انتفاضته الباسلة...»، وقوله ايضاً «أن اي اعتداء على العراق هو اعتداء على سورية..». وما يقصده من هذا القول هو أن الاعتداء على العراق سيضر بمصالح سورية ومن اجل ذلك فهو اعتداء علىها. اما الاقوال المنسوبة الى الرئيس صدام والتي سمعها ضيفه السوري الكبير منه والتي يستوقف المرء سماعها فإن ابرزها قوله «ان تقوية العلاقات بين الشعبين الشقيقين العراقي والسوري تُعد انجازاً كبيراً لهما وللأمة...»، وقوله ايضاً «ان الاعداء سيبقون يعملون على ايذاء الامة لانهم يعرفون ماذا تعني العلاقة بين اقطارها وخاصة العلاقة بين العراق وسورية...».

وهذه الخطوة النوعية تحدث بين العراق وسورية والتي ينطبق عليها القول «وقد يجمع الله الشتيتين» وينطبق عليها مضمون البيت الشعري الذي يصوّر لقاء طرفين متباعدين اعتبرا من كثرة عمق الفراق «أن لا تلاقِيا»، مهدت لها خطوة نوعية بالغة الاهمية هي تلك التي تمثلت بتصريحات وزير الدفاع السعودي الامير سلطان بن عبد العزيز يوم الاربعاء 8/8/2001 الى «الشرق الاوسط» وجاء فيها حول العراق قوله: «ان السعودية مع نسيان الماضي وتجاوُز الوضع القائم. ونرحب بعودة العراق الى الصف العربي ولا يوجد في انفسنا عليه او ضده شيء، بل نرجو ان يتمكن من رفع معاناته بانصياعه لقرارات مجلس الامن الدولي وتنفيذ هذه المقررات...».

ومن المؤكد ان هذه الخطوة من جانب المملكة العربية السعودية وبشخص الامير سلطان والتي جاءت عشية زيارة رئيس الحكومة السورية الى بغداد ساعدت على جعل هذه الزيارة تتم في معزل عن المحاذير والشكوك والتحفظات. ومن باب الاجتهاد في الرأي يمكن القول ان المملكة قد تجد في الرئيس بشار، الذي قام يوم السبت الماضي بزيارته الاولى كرئىس للجمهورية الى الكويت، خير طرف لكي يصحح مسار العلاقة العراقية - الخليجية بدءاً من الكويت على اساس انها العقدة المستعصية وعلى اساس ان المملكة العربية السعودية انارت الضوء الاخضر امام اي مسعى متوازن ومخلص وحريص ومتفهم. وليس مبالغة القول انه اذا كانت الحال بين البعث في سورية والبعث في العراق انتهت الى ان يتفاهم النظامان قبل ان يتفاهم الحزبان، او ان تتقدم مصلحة البلدين والشعبين على عقيدة الحزبين الحاكمين... فإن مصالحة واقعية يخوض غمارها الرئيس بشار بين العراق والكويت وتطبيعاً واقعياً بين العراق وايران وتطبيعاً مماثلاً بين ايران ومصر تصبح من الامور الممكنة والمرحب بها، وبذلك تستقيم الامور ويفكر قادة الامة بمعزل عن الضغوط والمحاذير والمخاوف بما يجب القيام به لمواجهة مرحلة كثيرة الدقة من الصراع العربي- الاسرائيلي تعمل الصهيونية على ان ينتهي امر القضية الفلسطينية عند «بيت الشرق» مقابل وقف العدوان عليهم واصطياد شبانهم الابطال، وبما معناه ان استرجاع هذا البيت هو الحد الاقصى لما يمكن للفلسطينيين والعرب الحصول عليه... وتأجيل الدولة الفلسطينية ومصير الحرم الثالث الى نهاية القرن.