سنوات في مصر 13: حرية الاختلاف بين الكاتب والدولة؟ شخصيات ومواقف!

TT

خلال تجربتي الصحفية كمراسل حربي لجريدة «المصري» القاهرية في حرب عام 1947 ـ 1948 بين العرب واليهود، تسنى لي ان اصل الى مدينة بيت لحم القريبة من القدس، وان التقي بقائد الفرقة المصرية التي جاءت الى المدينة ضمن مخطط العمل الحربي العربي، وسمعت هناك الكثير عن جهاد جماعة «الاخوان المسلمين» في خضم المعارك..

وعندما قرر «الاخوان» تأسيس فرع لحركتهم في مدينة القدس، اقاموا من اجل ذلك مهرجانا خطابيا كبيرا في حديقة المنزل المجاور لقصر السيد سعيد افندي الحسيني في حي الشيخ جراح بالمدينة، وطلبوا مني ان اكون احد خطباء الحفل بالاضافة الى الاستاذ المرشد سعيد رمضان ـ احد قادة الحركة وابرز خطبائها، لم اتردد في قبول الدعوة.

وكانت تلك المناسبة تشكل اول لقاء لي «بالاخوان المسلمين».

ولست انكر الآن، انني قد تأثرت بما سمعت وما رأيت في ارجاء حركات الاخوان المسلمين، فوق ارض بلادي وحولها.

وكان ذلك في عام 1946.. اي قبل عام ونصف العام من نشوب حرب «النكبة» في عام 1947 وعام 1948.

ولم انضم الى حركة الاخوان ولم اصبح عضوا من اعضائها ولكني بقيت متأثرا بها، متتبعا لاخبارها فقد كنت في القدس يومذاك ـ وقد انتهت الحرب العالمية الثانية، وتصاعدت في بلدي موجات التعصب اليهودي المتزمت الى عنان السماء، مع شعارات دينية مجنونة تنادي «ان لا يهود بدون القدس، ولا قدس بدون الهيكل، والهيكل فوق الاقصى»!... الى اخره، مع ألف نشرة والف كتاب والف فيلم سينمائي وكلها مملوءة بالعداء للاسلام والكراهية للمسلمين والتربص بالقدس للاستيلاء عليها..!!.

من هنا، ولدت الشرارة التي اضاءت لي طريق التلاحم العاطفي مع الذين يحبون الاسلام ويدافعون عنه.

لقد حزنت كثيرا يوم قرر عبد الناصر حل المركز العام لجماعة الاخوان المسلمين عام 1954، وحزنت اكثر واكثر عندما اصدر عبد الناصر قرارا بحل المركز العام لجماعة السيدات المسلمات في عام 1964. وكنت اتساءل: لماذا كل ذلك؟ لماذا كل هذا العداء لهؤلاء الناس الذين صمموا على نشر عقيدة لا إله إلا الله، وجعلها منهج حياة واسلوب دولة ومجتمع للمسلمين؟ لماذا التنطح للفرسان المسلمين القادرين على التصدي للكفر اليهودي المتعصب والعهر الصهيوني العدواني والحفاظ على الاقصى من الضياع؟؟

لذا، كان اول عمل لي، بعد وصولي للقاهرة، في ذلك العام ان احصل على حديث صحفي مع المرشد العام يومذاك السيد حسن الهضيبي، خليفة المرشد السابق الشيخ حسن البنا، الذي سبق لي والتقيته في جنازة خالي محمد اسعاف النشاشيبي «اديب العربية» في القاهرة، في منزل سماحة الحاج امين الحسيني مفتي فلسطين الاكبر، ومجموعة من كبار رجال الاسلام في قاهرة المعز من بينهم فؤاد باشا اباظة وعبد الرحمن عزام وغيرهما. وكنت انادي بكل قوتي «انه لا يفل الحديد إلا الفولاذ» وان لا مصارع لتلك الموجات الكريهة من التعصب اليهودي سوى اليقظة الاسلامية النشطة القادرة على ان تراقب وتقاوم وتكشف وتصهر وتصرع وتنتصر.. لكي لا تضيع المقدسات ولا تسقط مدينة الانبياء ولا يتلاشى المسلمون.

ومضت الايام ويشاء القدر ان لا يطل علينا شهر اغسطس من عام 1965 حتى بدأنا نسمع عن شيء اسمه: مذبحة الاخوان المسلمين في سجون مصر..! ماذا جرى؟ وماذا هناك؟

لقد كانت ردهات سجن «ابي زعبل» ومعتقل «الفيوم» والسجن الحربي في القاهرة، هي الاماكن التي تجمع فيها المساجين من جماعة الاخوان المسلمين في مصر للمحاكمة! وهناك جرت عمليات تعذيبهم والتنكيل بهم في صيف عام 1965. وبدأوا اولا بمعتقل «القلعة» ومارسوا الكثير من اساليب الضرب والتعذيب والتجويع وكسر العظام باشراف مباشر من شمس بدران وصلاح نصر ولسان حالهم يقول بكل صراحة «اضرب واقتل.. واسجن وادفن».

وكانوا قبل ذلك علقوا الشهيد الطيب الذكر سيد قطب على حبل المشنقة..!! ترى، هل فعلوا ذلك من اجل مصر؟ من اجل الاسلام؟

ـ لا! ـ هل فعلوا ذلك من اجل فلسطين؟ انتقاما لنكبة عام 1948؟

هل ارادوا الثأر للاقصى وللمقدسات الاسلامية من اعداء الله..؟

لا.! لا! اذن لحساب من كانت تلك الحملة الارهابية الرسمية من صلاح نصر ـ رجل المخابرات ـ وزميله شمس بدران ـ رجل المشير، ضد الاخوان المسلمين في مصر.. ضد رهبان الليل وفرسان النهار كما وصفهم زميلنا التابعي في غلاف مجلة «آخر ساعة»؟

ان الاجابات على هذه الاسئلة تأتي ضمن الجواب على السؤال الوحيد، الجديد، وهو: ـ من هم الذين استفادوا وما زالوا يستفيدون من وراء القضاء على حركة الاخوان المسلمين في مصر؟

انهم بالتحديد: امريكا وروسيا واسرائيل والاستعمار الديني العالمي الكريه.

ترى هل كان بوسعي ان اكتب حرفا واحدا عن تلك المواضيع، لكي ادافع به عن الابرياء المدخرين ليوم البلاء، وادين تعذيبهم ايمانا مني بأن المعركة ضد اعداء القدس «من اعداء الاسلام» لن تكون بعيدة وان هؤلاء هم جنود تلك المعركة القادمة؟ لا! لم يكن هذا ممكنا.. ولن يكون ممكنا.

ولن يسمحوا لي بكلمة عابرة استنكر بها تعذيب السيدة خالدة الهضيبي، زوجة المرشد يومذاك السيد حسن الهضيبي، والتي كانت قد تجاوزت العقد السابع من العمر..

ولن يسمحوا لي بأن ابدي دهشتي واستنكاري لما قيل لي عن تعذيب حسن الهضيبي بالذات وتجريده من ثيابه، واطلاقه في فناء السجن عاريا لكي يرقص.. ويدب ويغني.. وينادي انه رجل.. وسخ.. وكلب اجرب! ترى هل كان على الصحفي الذي يختلف في آرائه مع آراء الثورة او الدولة او الزعيم ان يلتزم الصمت، او ان يرحل من البلد.

هناك مثل تركي مشهور يقول في مثل هذه الحالات:

ـ «اما ان تبلع الجمل، واما ان تترك البلد».

ولم يكن باستطاعتي ان ابلع «الجمل» فرحت افكر في الرحيل الى الخارج.. الى ارجاء الارض الواسعة، حيث اقدر هناك على النسيان، وابقى بعيدا عن صور تلك المأساة المخيفة.. وغيرها.

وقد اكون مديناً لمصر بالمنصب الصحفي والاعلامي الذي كنت اشغله بكل كرامة وشرف. ولكن مثل هذا الدين المعنوي، يتلاشى ويموت عندما تتحول الثورة التي امنت بها الى مجرد محاكم تفتيش او محاكم قتل وتعذيب! وكان هذا في صيف عام 1965.

ثم بدأت الضربات والنكبات تنهال فوق رؤوسنا ـ عربا ومهجرين ـ من نكبة الى نكسة الى لطمة، وبكل هذا وما زالت بعض الاقلام الجاهلة، او «الموظفة» تشن هجومها على كل حركة اسلامية ـ لا فرق بين «حماس» او الاخوان» او «حزب الله ـ ابتغاء وجه الشيطان! وفي معرض الرد على بعض هذه الهجمات، قرأت لكاتب سعودي اسمه «سعد عطا» من جدة يقول في كلمة منشورة بـ«الشرق الأوسط» تستحق مني اعادة نشرها وضمها الى هذه السطور. قال: «قد الفنا من بعض الكتاب تقدير الاسلام كدين، ومهاجمة دعاته باستمرار، وكأن الدين افكار مجردة، لا علاقة له ببشر يحملونه.. نعم الدعاة عرضة للاخطاء، لكن ينبغي للكاتب ان يكون دقيقا وموضوعيا في النقد خاصة في مثل هذه القضايا، حيث كيل التهم سهل وخطير في آن معا. فعند قيام جماعة الاخوان المسلمين عام 1928، لم يكن هناك تهديد شيوعي للعالم العربي، والقول ان بريطانيا دعمتهم افتراء داحض، والا فأين الدليل؟ ان كل الانظمة التي اصطدمت بالاخوان زعمت هذا الزعم، لكنها جميعا عجزت عن تقديم دليل واحد سوى المزاعم الجوفاء.

«اذا كانت الحركات الاسلامية صنيعة غربية، او ـ على الاقل ـ متحالفة مع الغرب واميركا بالذات، فكيف خسرت المواجهة مع القوى الثورية سواء امام عبد الناصر في مصر، او امام اخرين؟! اذن ما اقوى هذه الانظمة التي هزمت حلفاء اميركا؟

«اذا كانت الحركات الاسلامية حليفة لاميركا، فلماذا سكتت اميركا ـ حتى اعلاميا على المذابح التي ارتكبت بحقهم، ولم تكن الشيوعية سقطت؟!.

«ارجو من بعض الكتاب والمنابر الكف عن الاستخفاف بعقول القراء، اما آن لهؤلاء خاصة القوميين والبعثيين، ان ينتهوا عن طريقة استبعاد الآخر وقذفه بالعمالة والارتباط الخارجي، تلك التهم التي دمرت الوطن ايام حكمهم، وقادرة في اي لحظة على تمزيق ما تبقى منه.

واخيرا فان ظاهرة الحركات الاسلامية هي ظاهرة صحية، وهذه الحركات تتمتع بتأييد الجماهير المثقفة والشعبية (والا لماذا كل هذا الخوف منها) وهي تعبر عن حيوية المجتمعات الاسلامية، التي رفضت عزل الاسلام عن الحياة بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية، ثم تطورت الى تجسيد لآمال شعوب المنطقة في مواجهة عصابات امسكت برقاب البلاد والعباد، ونهبت الثروات واستباحت الظلم، وانزلت الهزائم بالامة، وارادت تزوير هويتها وجرها قسرا الى احد المعسكرين الشرقي او الغربي..».

-انتهى كلام القارئ السعودي في «الشرق الأوسط».

*** تلك هي صورة للظروف والاسباب التي حملتني للاعتراض الاول ثم التفكير المعاكس ثم الاتجاه المختلف، عن مسيرة ثورة 23 يوليو في مصر.

وبقية الاسباب تأتي تباعا وراءها..! فقد جاءت قضية الاكراد في العراق يوم قرر عبد الناصر ان يؤيد كل صوت معارض وينصر كل حركة تعادي عبد الكريم قاسم.. حتى ولو كان في ذلك الصوت او تلك الحركة ما يلحق بعض الضرر بالقومية العربية، والصوت العربي ووحدة ارض العراق..

اجل!.

لقد اعلن عبد الناصر امام الدنيا كلها، عن تأييده لقيام دولة كردية فوق ارض العراق. هكذا.. جهارا نهارا.. وبلا شروط ولا كلام! ولم تكن تلك «الدعوة» متفقة مع مبادئ عبد الناصر الوحدوي، او مع حرصه على وحدة تراب كل قطر عربي، لولا كراهيته وعداؤه الشديد للرئيس العراقي ـ يومذاك ـ عبد الكريم قاسم.. او «قاسم العراق» كما كان يسميه عندما يأتي على ذكره..! وما دام «قاسم» لا يريد دولة كردية في ارض العراق، فمن حق عبد الناصر ان يريد دولة كردية في ارض العراق! وهذا هو المهم في القضية كلها.

ان المبادئ السياسية مهما كبرت وانتشرت تبقى ضعيفة ومتناثرة امام الاعيب السياسة وتقلبات الحاكمين!! ومما لا شك فيه ان اكراد العراق امتلكوا كل مقومات الدولة قبل ان تقوم لهم او باسمهم دولة. وكلنا نعرف تفاصيل الجهد العسكري والاعلامي الهائل الذي بذله اكراد العراق من اجل انشاء دولة كردية تجمع شملهم. وكانت للحركة الكردية «صحيفة» تنطق باسمهم في مصر، منذ القرن التاسع عشر. ويحق للكردي ان يقرر مصيره بنفسه سواء اعترض قاسم او وافق جمال عبد الناصر..! وكل هذا في جانب.. والحرص على وحدة ارض العراق في جانب آخر.

ثم قرر عبد الناصر نقل مناصرته لاكراد العراق نكاية بعبد الكريم قاسم، من الداخل الى الاذاعات الرسمية والخارجية، حيث وصلت هذه القضية الى حد توجيه النداءات الحماسية النارية والبيانات الى الاكراد في شمال العراق بضرورة الثورة ضد بغداد وتمزيق الوحدة العراقية بينما سبقت اذاعات مصر سائر اذاعات العالم في هذا الموضوع عندما بدأت وقبل قيام ثورة 14 يوليو من عام 1958 في بث برامج «كردية» خاصة لاكراد العراق تجاوبا مع المعارضة العراقية لحكم «قاسم» وتلبية لمطلبها، مما تسبب في اثارة العواطف المعادية لمصر وللاكراد معا في كل من العراق وتركيا وايران حتى ان شاه ايران السابق الامبراطور محمد رضا بهلوي قرر يومذاك انشاء محطة اذاعة كردية خاصة داخل ايران للرد على الاذاعات الكردية القادمة من ارض مصر.

وقد تسنى لي ان اتعرف الى الكثيرين من رجالات الاكراد خلال وجودي في مصيف سرسنك العراقي على الحدود التركية الايرانية، برفقة صلاح سالم وكان معنا، صائب سلام.. حيث كان هؤلاء الرجال يأتون الى المقر الملكي للسلام على الملك والامير والضيوف الكبار، وهم يرتدون البستهم الملونة، المزركشة وعمائمهم الخاصة، وينشدون الحانهم المعروفة، ويؤدون الرقصات الحلوة، في امسيات يختلط فيها العربي بالكردي بالايراني بالتركي، على الحدود الشمالية المشتركة لتلك البلاد.. في جو اخوي يتسم بالمحبة والتقدير.

كما تسنى لي ان انضم الى القوات العراقية المرابطة في مدينة شقلاوة، ومصيف صلاح الدين بالقرب من سرسنك، وان اؤدي «دورة» تدريب عسكرية ما زلت احن الى ذكرياتها! وكان هناك ملك العراق الشاب، اي العريس الذي تمت خطبته ولم يتزوج بعد! وكان هناك الوصي عبد الاله.. ولي عهد العراق.

وكان هناك نوري السعيد.. ثعلب السياسة العربية على مدى نصف قرن.

وسألني نوري السعيد على مسمع من صلاح سالم وهو يتعمد ذلك قائلا: كيف صحة الرئيس جمال يا استاذ؟

قلت: زي الحديد.. يا باشا! فقال -موجها كلامه لصلاح سالم الذي جاء الى العراق يومذاك للبحث في موضوع «حلف بغداد» او ميثاق الضمان الجماعي. «قال لي احمد مختار بابان ان الرئيس عبد الناصر يريد مني السفر الى مصر لمقابلته وسألبي رغبته واسافر بعد اسبوع واحد الى القاهرة».

وسافر نوري السعيد الى مصر والتقى بعبد الناصر، الذي كرّر له تلك العبارة «بأنه ـ اي نوري باشا ـ حر في اتخاذ كل ما يلزم لسلامة بلده»!! ولم يمض اسبوع واحد.. واحد فقط على عودة نوري السعيد من القاهرة، حتى بدأت اذاعات مصر وصوت العرب تهاجم نوري السعيد وتلعن سنسفيل جدود اي تفاهم يقوم بين العراق وتركيا..! انا شخصيا سمعت عبد الناصر يقول لي بعدها في منزل هيكل «ان نوري باشا رجل كذاب وانه لا يثق به.. وانه عبد للاستعمار!».

وسمعت صلاح سالم يقول لي ونحن عائدان بالطائرة العراقية الصغيرة من سرسنك الى بغداد للعودة منها الى القاهرة بأن «حلف بغداد» يبقى افضل الف مرة من شيء اسمه ميثاق «الضمان الجماعي»!.

ثم سألني صلاح سالم باسلوبه وعلى طريقته المعروفة:

ـ هل تعرف قصة هذا الميثاق الجماعي.. الهزيل؟

ومضى يروي القصة التي ملخصها ان الميثاق المذكور قد ولد في خريف عام 1949 على يد الملحق الصحفي في مصر للملك فاروق المرحوم كريم ثابت، حيث مرّ الاستاذ ثابت يومذاك على السيد ناظم القدسي وزير الخارجية السورية الذي جاء يمثل بلده في اجتماعات مجلس الجامعة العربية وسأله عن المعنى المختفي وراء دعوة «بعض» رجالات سورية الى قيام «وحدة» بين سورية والعراق، واذا كانت هذه الدعوة مدفوعة من طرف العراق او لحسابه؟ وعندما اجاب ناظم القدسي بأن المسألة تتعلق بأمن سورية وسلامتها من الخطر الاسرائيلي القريب على حدودها حيث يبقى الجيش العراقي عنصر قوة ودفاع تحت السوريين بجانب الجيش السوري.

عند ذاك اقترح كريم ثابت إنشاء ميثاق عسكري على غرار التشبه بميثاق الحلف الاطلنطي (الاطلسي) ما دام الامر يتعلق فقط بأمن سورية وسلامتها!.

وقام كريم ثابت بعرض الفكرة على الملك فاروق الذي بادر الى الترحيب بها، لا حبا بالمشروع ولا تأييدا لاية خطوة عسكرية قادرة على ان تجمع شمل العرب او توحد قوتهم العسكرية، وانما حرصا منه ـ من الملك فاروق ـ على ان يحطم كل مبادرة سياسية تدعو الى وحدة سورية مع العراق، ويقضي على أي سبب قد يبرر قيام مثل تلك الوحدة.. نكاية بالعراق وبالهاشميين.. وبالملك عبد الله.. وخدمة لجهات اخرى كانت تحرص على ابقاء التباعد قائما بين سورية والعراق..! تلك حقيقة لم يشأ الملك فاروق، ولا مستشاره الصحفي السابق الاعتراف بها حتى هذا اليوم.

ثم اضاف صلاح سالم: وما هو هذا الميثاق؟؟ انه ـ عسكريا ـ «لا يساوي قشرة بصل»!. وعندما انتهى صلاح سالم، من سرد تلك القصة، سألني ضاحكا ومستهزئا: «ما رأيك يا سيدي: في ان نبحث الان عن مشروع سياسي او عسكري اخر يكون صاحبه هذه المرة ذلك الايطالي المأجور ـ السنيور بوللي بيه (انطون بوللي) خادم الملك فاروق للشؤون «الخاصة» وندرس مشروعه، وندعو العرب للتمسك به، ونختبئ وراءه لحمايتنا من الاخطار الخارجية.. من اسرائيل مثلا؟؟» انتهى كلام صلاح سالم..

والآن، وبعد مرور نصف قرن على تلك الهزات السياسية السوداء، استطيع ان اعترف واقول بأني ـ شخصيا ـ لم اكن مع الميثاق المذكور ولم اكن ضد «حلف بغداد»، ولم اكفر بمزاياه التي كانت قادرة ـ ولو الى حد محدود ـ ان تنقذ بقية فلسطين من الضياع بأيدي الزعماء الذين عارضوا «حلف بغداد»، وابتهجوا بمقتل نوري السعيد ورحبوا بمجيء عبد الكريم قاسم..

ثم انتهوا.. وسقطوا بعد ان سقط معهم عبد الكريم قاسم.

ولو كانت لدى العرب القدرة السياسية في التفكير البعيد النظر، لاستفادوا من «حلف بغداد» لحساب فلسطين بدلا من هذا التآمر لقيام انقلاب «14 تموز (يوليو)» الذي قضى على كل شيء واعاد العراق الى سنوات الفقر، والخوف والصراع والانقسام.

ان العمل السياسي في جوهره لا يتعدى حدود عملية حساب بسيطة تتلخص في كلمتين: «خذ.. واعط»! وقد تأخذ اكثر وقد تعطي اقل. ولكن المهم ان تجري العملية.. وان تحاول ان تستفيد منها بقدر المستطاع.

ومرة أخرى اقول: لو كان «حلف بغداد» يحمل اسم «حلف القاهرة» ـ مثلا ـ لما احتاج الى كل هذا التشنج وهذا العداء من عبد الناصر.

ولكن..

لقد خرجتُ من حكاية «الاخوان المسلمين» .. وقصة الاكراد.. وتمثيلية «حلف بغداد» لكي ادخل في مأساة قرار تأميم الصحف في عصر ذلك اليوم الحزين، داخل قصر القبة بالقاهرة!

*** لقد دخل علينا عبد الناصر في ذلك اليوم لكي يبلغنا قراره حول التأميم.. تأميم الصحف المصرية!.

وكان منقبض الوجه، مشدود العضلات، عابس النظرة، يمشي من باب القاعة الى الكرسي المخصص له وكأنه يستعرض طابورا عسكريا. وكنت اجلس في الصف الامامي وبجانبي هيكل وبجانبه صلاح سالم. وضمت القاعة كبار الوزراء ورؤساء تحرير الصحف ومديري الادارات. وسيمضي وقت طويل قبل ان انسى الجراح العميقة التي اصابت جسد الصحافة وروحها في ذلك اليوم الكئيب حيث كان عبد الناصر يختار رؤساء التحرير وكبار الكتاب واحدا بعد واحد ويمطرهم بالاهانات.. ويجرحهم بالغمزات واللمزات والملاحظات.

وكنت اظن ـ حتى ذلك اليوم ـ ان للصحفي كرامة عند المسؤول الاول. ولكن عندما سمعت ما قاله عبد الناصر لاحسان عبد القدوس ولفكري اباظة ولعلي امين ولكامل الشناوي ـ الشاعر الاديب الرقيق ـ عند ذاك، لم اعد اميز في نظري بين الصحفي المصري والسفرجي.. او بواب العمارة!!.

وبالاخص ما سمعناه في ذلك اليوم موجها للزميل الرقيق كامل الشناوي الذي اعتاد ان يتوجه بعد انتهاء عمله في كل مساء الى «كافيتريا» فندق هيلتون على شاطئ النيل، ويلتقي بالعديد من محبيه واصدقائه وزملائه ويتناول معنا طعام العشاء، وسط احلى وأرق ما يتمنى الصحفي سماعه من اخبار وشعر، ورأي واسرار.

ولم يحاول كامل الشناوي ان يخفي عادته في السهر داخل كافيتريا هيلتون. بل كان يبرر تلك السهرات ويصفها بقلمه قائلا: «وفي كثير من الاحيان اترك بيتي او مكتبي بعد عمل دائم يستمر حتى منتصف الليل، واذهب الى حيث اجتمع بناس استريح لهم او اضيق بهم ..فالراحة والضيق يثيران شوقي الى الكتابة، وانا لا اعرف كيف اكتب دون ان احس لذعة الشوق وحرارته..».

ولكن عبد الناصر كان يكره كامل الشناوي، وكذلك عبد الحكيم عامر الذي ابكى الشناوي في دمشق عام 59، لان هذا الانسان الرقيق كان صديقا وفيا لصلاح سالم..!! ولكن..

عندما مات صلاح سالم، كانت دموع عبد الناصر حزنا عليه اقوى واكثر واغزر من دموع كامل الشناوي. وعندما مشينا في جنازة صلاح رأيت الشناوي عاجزا عن الاستمرار في المشي. وفي اليوم التالي كتب الرثاء المؤلم في «الجمهورية» قال فيه: «.. ليست هذه جنازة تضم عشرات الألوف مشوا وراء نعش. وعشرات الالوف وقفوا فوق الارصفة واطلوا من النوافذ والشرفات وقد استولى عليهم الحزن والوجوم، وانما هي مظاهرة شعبية انسانية للقيم والمبادئ التي كان صلاح سالم يحمل لواءها».

ثم قال: «.. وعندما رأيت جمال عبد الناصر في المستشفى يبكي صديقه صلاح سالم بدمعه، وقلبه، رأيت فيه الانسان وعندما قرأت بيانه الذي دعا فيه الامة الى ان تشاركه حزنه على صديقه وزميله تمثل امامي وفاء الصديق وعظمة الزعيم. وعندما شاهدت هذه الجموع تشيع جنازة صلاح سالم شعرت بأن الجماهير لا تودع راحلا، ولكن تصنع بعبراتها ونحيبها تمثالا للمعاني التي يرمز اليها صلاح سالم.. العبقري الثائر. لقد كانت تلك الجنازة استفتاء شعبيا منح فيه الشعب ثقته المطلقة بالثورة التي كان صلاح سالم واحدا من جنودها البسلاء وعبر فيها عن حبه الحزين لصلاح الانسان الجدير بأن نحبه دائما وان نحزن عليه الى الابد..»! وعندما توفي الدكتور انور المفتي ـ طبيب عبد الناصر واحد عمالقة الطب في مصر ـ كتب الشناوي: «.. كان انور المفتي ثروة قومية عربية وكان ثروة انسانية عالمية. انا احاول ان ابكي وان اشهق وازفر ويا ربي اغفر لي حسرتي وألمي فلست اعترض على قضائك ولكن اسألك ان تلطف بنا في ما تقضي.. وسلام على انور المفتي عالما وانسانا.. ليته عاش لنا، وعاش بعدنا..».

وفي الساعات الاخيرة من حياة الصحفي الصديق الشاعر اسماعيل الحبروك، زميلنا في «الجمهورية»، وقف كامل الشناوي الى جانب سريره وكأنه جاء لكي يودعه.. وفي اليوم التالي كتب يقول: «.. كان فينا من عرف المريض فأحبه، وفينا من عرفه واختلف معه ولكنه لم يكرهه ابدا، فان اسماعيل الحبروك من الاشخاص القلائل الذين يتحدونك ان تكرههم مهما يشتد خلافك معهم. صداقته بيضاء وخصومته بيضاء وطيبة قلبه تجعل من الغفران ستارا بينه وبين كل من يتصور انهم اساءوا اليه او يتصورون انه اساء اليهم..!!».

ولكن كامل الشناوي لم يعش طويلا.

لقد ابرق لي زميلي توفيق هنري بحري ـ سكرتير جريدة «الاهرام» ـ من القاهرة الى جنيف ينعى لي اخي ورفيق عمري واستاذي، كامل الشناوي.

ورددت في نفسي بيتا من الشعر كان الشناوي قد طلب مني ان احفظه. يقول: من شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحاذر اعود الى يوم تأميم الصحف بأمر من جمال عبد الناصر، واؤكد بأن تقريع الرئيس لزميلنا الكبير كامل الشناوي في تلك الجلسة المؤلمة، لم يمنع الشناوي من التوجه بعد تلك الجلسة، مباشرة، من قصر القبة الى كافتيريا هيلتون لقضاء السهرة.. كعادته في كل مساء.

ذلك اللقاء الذي شيعنا فيه حرية الصحافة الى مثواها الاخير، كان بمثابة دقات الجرس التي تصرخ بي في جنون لكي تسألني:

ـ ايها «الشامي».. المقدسي المقيم في مصر: متى تذهب؟ متى تغادر؟ متى تصحو؟ متى تستقيل؟ متى تعود الى بلدك؟ ألم تر ماذا جرى لانطون الجميل، واولاد زيدان واولاد جلاد من قبلك؟ وهبط الجواب سريعا، عندما ظهر على المسرح الصحفي فجأة، المشير عبد الحكيم عامر.. الذي قضى على الوحدة مع سورية وقضى على احتمالات النصر في اليمن، ثم جاء في عام 1965 لكي يقضي على ما تبقى من جريدة «الجمهورية» وصحف دار التحرير.

يتبع

* حقوق النشر محفوظة ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»