الخروج من الأزمة العالمية

TT

جاءني صوت صديقي عبر «المحمول» محتجا بطريقته الرقيقة على مقال أخير تحت عنوان «كذب الاقتصاديون مرة أخرى»، حملت فيه على الاقتصاديين وعلم الاقتصاد، لأنهم فشلوا في التنبؤ بإمكانية الخروج من الأزمة العالمية الاقتصادية الراهنة. وكان قبل ذلك قد احتج مبتسما ومعاتبا على اتهامي في مقال سابق للاقتصاديين وعلم الاقتصاد بالمسؤولية عن وقوع الأزمة من الأصل. وصديقي هو الدكتور أحمد جلال، أستاذ وخبير الاقتصاد القدير في محافل ومنظمات دولية عدة، وحاليا هو مدير «منتدى البحوث الاقتصادية» بالقاهرة، وقبل كل ذلك وبعده فهو مستشاري الاقتصادي الذي ألجأ إليه عندما تتعقد الدنيا بحثا عن الفهم والنصيحة.

جوهر حجة الصديق كانت ذات ثلاثة وجوه: أولها أنني أخطأت في تقدير التقدم الجاري في علم الاقتصاد حيث حدثت قفزات علمية وتقدم في علم الاقتصاد الجزئي «Microeconomics»، أما علم الاقتصاد الكلى «Macroeconomics» فلا يزال يواجه مشكلات كثيرة ترجع إلى التعقد الشديد للظواهر الاقتصادية واختلاطها بمجالات أخرى مجتمعية ونفسية وسياسية. وثانيها أن حزمة غير قليلة من الاقتصاديين قد تنبأت بالأزمة، وجماعة أخرى رصدت مؤشرات الخرج منها. وثالثها أن الاقتصاديين كانوا هم الذين وضعوا «روشتة» الخروج من الأزمة عندما وضعوا خطط إنقاذ المؤسسات الاقتصادية، وعندما اقترحوا حزم التحفيز المالية التي قامت بها الحكومات، وعندما وضعوا أسسا وسياسات للتعاون الدولي لمواجهة الأزمة.

أما وقد سجلت رأى صديقي فإنني حمدت الله أنه لم يراجعني في أن العالم في طريقه إلى الخروج من الأزمة لأن موجة التشاؤم الهائلة التي صاحبت وقوع الأزمة وإشهارها في الدنيا كما لو كانت تكرارا لأزمة الكساد الكبرى في الثلاثينيات جعلتني أتخيل النتائج السياسية والاجتماعية التي يمكن أن تقع على النظام الدولي والعالم العربي. فكما هو معروف فإن أزمة الكساد الماضية قضت على كل الآمال العظمى للإنسانية كلها، والتي تفجرت بعد الحرب العالمية الأولى ونجم عنها إنشاء عصبة الأمم، وفي نفس الوقت فإنها دفعت دول العالم المختلفة إلى إجراءات حمائية سرعان ما أدت إلى مزيد من الانكماش، وفي النهاية كان كل ذلك مدعاة لظهور الفاشية والنازية والتيارات المتطرفة التي قادت الدنيا كلها إلى الحرب العالمية الثانية، والتي دفعت ثمنها شعوب كثيرة، بعضها مثلنا في الدول العربية، لم يكن لها في الحرب كما قيل في مصر «لا ناقة ولا جمل». وبطريقة أو بأخرى فإن إنشاء دولة إسرائيل والصراع العربي الإسرائيلي لم يكن ليحدث لو أن ذلك الكساد الكبير ونتائجه لم يحدث، من محرقة لليهود إلى صعود اللا سامية ضدهم في أوروبا.

وهكذا فإن كسادا عالميا جديدا على الطريقة القديمة كان معناه من ناحية زيادة التطرف والعنصرية واللا سامية، وهذه المرة ضد العرب والمسلمين، وزيادة التوتر الدولي، وكان ذلك واضحا في العلاقات الروسية الأمريكية بعد غزو روسيا لجورجيا ونتيجة إصرار الولايات المتحدة على نشر مبادرة الدرع الصاروخية في دول ملاصقة لروسيا. ولكن الأهم من ذلك كله أن محاولات الإصلاح الاقتصادي التي جرت في عدد من الدول العربية الرئيسية خلال السنوات الأخيرة الماضية كانت ستصاب بنكسة خطيرة تعطي فرصا لا حد لها لجماعات التطرف والمغالاة والعنف والأصولية التي لم تتعب من محاولات تدمير مجتمعاتنا ودولنا.

ولكنّ أيا من ذلك لم يحدث، ولم يمضِ عام على الأزمة حتى بدأت مظاهر الخروج منها، ورغم أحاديث وتصريحات كثيرة أنه من المبكر الحديث عن نهاية الأزمة، فإنه بات من الصعب تجاهل المظاهر المختلفة المبشرة على الأقل بأن الكساد الكبير لن يحدث مرة أخرى، وأن التعاون الدولي حدث بأكثر مما كان مقدرا، بل وأكثر من ذلك فإن محاولات عدة لتخفيف التوتر الدولي أصبحت أمرا واقعا، سواء بالإعلان الأمريكي عن وقف مبادرة الدرع الصاروخية أو بالمحاولة الأمريكية لحل صراع الشرق الأوسط.

وربما كان كل ذلك هو جوهر الحجة التي طرحتها مع آخرين مرارا أن العالم قد تغير كثيرا خلال العقود القليلة الماضية إلى الدرجة التي خلقت تحديات جديدة على علم الاقتصاد، والعلوم الاجتماعية المختلفة. ولعل قراءة الأزمة الحالية تجعلنا نشير إلى مجموعة من القوى الفاعلة التي منعت التحول إلى أمر يشابه الكساد الكبير في الثلاثينيات، أولها التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في الدنيا كلها الذي خلق ثورة غير مسبوقة في السلع والخدمات لم يعرف الإنسان لها مثيلا من قبل. هذه الثورة التي قامت على التطور في مجالات المعلومات والهندسة الوراثية وتكنولوجيا المواد وغيرها دخلت إلى مرحلة العنفوان بمنتجات جديدة يستحيل على الإنسان ـ أي الطلب ـ مقاومتها. ومن يقارن أجهزة الكومبيوتر والتليفون المحمول التي نستخدمها حاليا مع تلك التي كنا نستخدمها منذ سنوات قليلة يلاحظ القفزة الهائلة في التطبيقات والاستخدامات التي تقدم للمستهلك، ونتيجة المنافسة بأسعار رخيصة. وربما كانت هذه هي الأمثلة السهلة، ولكن هناك ثورات أخرى جارية في السيارات والمنازل وحتى القرى «الذكية» التي تنقل الحياة الإنسانية كلها نقلة نوعية، ربما لن نعرف نتائجها الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية قبل عدد من السنوات. وبالمقارنة مع فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات فإن مثل هذه الطفرة التكنولوجية تماثل ما جرى من قبل نتيجة انتشار السيارات وظهور الطائرات والانتقال من الفحم إلى النفط من آثار أدت إلى الخروج من الأزمة العالمية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وثانيها أن «العولمة» أصبحت واقعا أكثر مما هو مقدر، ولحسن الحظ أن «المصائب» لا تحدث دائما في نفس الوقت، وعندما جرت الأزمة المالية في الدول الآسيوية عام 1997 نجم عنها إصلاح مالي كبير في هذه الدول، ومعها تمت عملية الإنقاذ عن طريق النظام المالي العالمي. هذه الدول كانت أكثر استعدادا للتعامل مع الأزمة الجديدة والخروج منها بسرعة، خصوصا أنها من الدول التي لا تتحمل في ظل العولمة توقف عملية التنمية مثل الصين والهند وإندونيسيا. لقد أصبحت فكرة «التنمية» و«التقدم» و«الغنى» فكرة عالمية بحق يتطلع إليها مليارات من البشر، ويسعون إليها بعد حرمان طويل، بعد أن أعطتهم وسائل الإعلام والتكنولوجيا في الواقع وسائل عدة للعلم بها وما توفره من خيارات كثيرة للإنسان. بمعنى آخر فإن آفاق الحرية الإنسانية وصلت إلى ما لم يصل له الإنسان في تاريخه، سواء كانت هذه الآفاق قريبة أو بعيدة في الزمن والمسافة، في الغذاء أو في الملبس أو في المسكن، وكان الطموح الإنساني في النهاية واحدا من أهم المحركات التي جعلت الاستسلام للأزمة، وإمكانيات تحولها إلى كساد كبير، من الأمور «المستحيلة».

وثالثها جاءت بها في آخر أعدادها الصحفية مجلة «النيوزويك» الأمريكية التي جاء على غلافها سيدة أنيقة ومعها عنوان «العنصر الأنثوي» «كيف يمكن للقوة الشرائية النسائية غير المستغلة أن تنقذ العالم من الركود». هنا فإن المحرك هو النساء والشباب، بل وحتى الأطفال والقوى الاجتماعية المختلفة التي بدأت تدخل السوق الاقتصادية بقوة وزخم كبيرين. هؤلاء جميعا غيروا أنماط الاستهلاك في دول كثيرة، وبعثت عمليات الشراء والبيع بعد انكماش، وسمحت المنافسة وانخفاض الأسعار بأن يحصل هؤلاء جميعا على ما لم يكونوا يستطيعون الحصول عليه من قبل، بل لأنهم أكثر من ذلك باتوا سببا في ابتكارات اختراعات كثيرة.

الظواهر الثلاث ـ الثورة التكنولوجية، والعولمة، ودخول فئات وقوى اجتماعية إلى السوق ـ ربما كانت كلها ظواهر ومتغيرات جديدة نوعا ما، ولكنها كلها تنبع من أصول واحدة لتطور قوى الإنتاج من ناحية، والرأسمالية من ناحية أخرى. أولهما يعبر عن سعي الإنسان اللانهائي من أجل المعرفة والعلم والتحكم في الطبيعة والسيطرة عليها، وثانيهما يأتي من طموح الأفراد ورغبتهم وغرائزهم الساعية إلى الربح والثروة والإشباع، وباختصار الدخول في سوق واسعة الاختيارات. إنها الرأسمالية في أحسن أحوالها، وقدرتها على التصحيح الذاتي: حدث ذلك خلال الكساد الكبير وعلى مدى عقد ونصف، ويحدث ذلك الآن، وخلال فترة قصيرة لا تتعدى العام!