سر هذه الحيوية الهائلة!

TT

كان أستاذنا المستشرق الألماني باول كراوس أعجوبة الجامعة كلها ـ يمشي بسرعة هائلة.. يتوقف كما يتوقف الأتوبيس، حتى نكاد نسمع قدمه وهى تقوم بدور الفرامل. واعتدنا أن نلهث وراءه. ولم يلاحظ أننا نحاول اللحاق به فيظل يجري في كل اتجاه. إنه لا يرى أنه يجري وإنما هو يمشي بسرعة..

ونندهش كيف يجري كل هذا الجري من أجل الحصول على كتاب أو رد كتاب أو الذهاب إلى قاعة المحاضرات. والغريب أن عدد الطلبة كانوا خمسة فقط. وظل هذا العدد يتناقص حتى لم يبق سواي.. وهو لا يسأل لماذا يغيب الطلبة. ولا ينظر وراءه. وإنما يتجه مباشرة إلى ناحية الطلبة الذين هم أنا.. ويتحدث بصوت مرتفع كأنه يخطب في استاد القاهرة. وينظر الطلبة من النوافذ ليعرفوا مصدر الزعيق.. فلا يجدون أحدا.. أو يجدونني ويقولون: رجل مجنون!

وليس مجنونا. ولكن شيئا ما جعلني ألتفت إلى أنه يفتح الشنطة ويستخرج شيئا صغيرا ويضعه في فمه ويمصمصه ويمضي في القراءة أو الكتابة أو الجري.. حاولت أن أعرف ما هذا الشيء.. لعله حبوب مقوية.. فيتامينات. ولكن لاحظت أيضا أنها ليست حبوبا ولا أقراصا. وإنما هي شيء أكبر وأظن لونه بنيا.. وهو قد لاحظ اهتمامي ولم يقل شيئا.

وكان قد وزع علينا بعض أعماله. كان من واجبي أن أراجع قاموسا لاتينيا ويونانيا. والمراجعة شاقة ودقيقة. وهو لا يسأل عن المراجعة وإنما هو يفترض أن أقوم بهذا الواجب كما ينبغي.. لأنه هو يفعل ذلك!

وفى يوم فتح حقيبته وأخرج هذا الدواء السحري.. ولاحظ أنه أكثر مما يجب فأعطاني نصفه ـ وكان النصف بلحة جافة!

إن هذه البلحة ليست هي المصدر الوحيد لهذه الحيوية.. إن البلحة تشبه عود كبريت لشعلة كبيرة. هذه الشعلة هي إرادته.. هي حبه لعمله.. هي تفانيه في أداء ما هو واجب.. والواجب في الفلسفة الألمانية مقدس، أو هو من أهم المقدسات.. وقد تعلمنا منه هذا الجنون بالعمل وفى العمل ومن أجل العمل.. فلا جزاه الله خيرا، فنحن ضحاياه في عالم لا يهمه لا واجب ولا مبدأ ولا أي شيء مقدس!