حان الوقت لإبرام صفقة في أفغانستان

TT

حان الوقت كي نتسم بالواقعية حيال التعامل مع أفغانستان. إن الانسحاب ليس خيارا واقعيا، بالنظر إلى المجهود الهائل الذي بذلته الولايات المتحدة وحلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي وغيرهم من أجل تحقيق الاستقرار في أفغانستان على مدار السنوات الثماني الماضية. وينبغي ألا تتخلى هذه الدول عن أفغانستان بسبب إثبات جماعة «طالبان» أنها عدو أصعب مما سبق اعتقاده. ومع ذلك، تبقى هناك فجوة واسعة بين الأهداف التي حددتها إدارة أوباما وسبل تنفيذها على أرض الواقع. ويتمثل السبيل الأمثل لسد هذه الفجوة ليس في إرسال عشرات الآلاف من الجنود الإضافيين، وإنما عبر تفهم ما يمكننا تحقيقه داخل أفغانستان.

تتمثل أهم حقائق عالم ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في غياب أي هجوم لاحق ضخم. ويرجع هذا الأمر في الجزء الأكبر منه إلى أن أعضاء تنظيم «القاعدة» فارون ويتعرضون للمطاردة داخل أفغانستان وباكستان. والملاحظ أن الحملة ضد الجماعات الإرهابية في كلا البلدين تعتمد على القوات البرية والاستخبارات. وقد أخبرني مسؤول عسكري أميركي بارز يشارك في التخطيط لهذه الحملات أن الوجود الأميركي بأفغانستان شكل عنصرا جوهريا في الضربات الناجحة ضد قيادات ومعسكرات «القاعدة». حال رحيل واشنطن عن مسرح الأحداث، ستشرع جميع العناصر الإقليمية في السعي لكسب نفوذ داخل أفغانستان. ويكاد يكون في حكم المؤكد أن ذلك يعني إحياء التحالف المسموم بين المؤسسة العسكرية الباكستانية والعناصر الأكثر تشددا في «طالبان». وينبغي أن نذكر أنفسنا بأن أفغانستان لم تسقط في الهاوية بعد. على سبيل المثال، تكشف الإحصاءات أن أعداد القتلى من المدنيين، رغم بشاعتها، تقل عن عشر الرقم المناظر لها في العراق عام 2006. خلال الانتخابات الأفغانية الأخيرة، أقر المرشحون الرئاسيون الأربعة جميعا علانية الوجود الأميركي هناك. وعلينا أن نقارن ذلك بالعراق، حيث اعتاد السياسيون شن حملات تنديد مستمرة بالولايات المتحدة سعيا لإرضاء مشاعر كراهية الولايات المتحدة على الصعيد العام.

على ما يبدو، فإن إجابة إدارة أوباما للوضع المتردي في أفغانستان تكمن في إرسال مزيد من القوات والمسؤولين المدنيين والاضطلاع بمزيد من المهام. في الواقع، ليس هناك ما يضير في مساعدة الشعب الأفغاني في تنمية بلادهم، لكن إذا كان الهدف منح أفغانستان حكومة مركزية قوية فاعلة واقتصادا نشطا، فإن مهمتنا هناك قد تستلزم عقودا، وليس سنوات. يذكر أن أفغانستان واحدة من أكثر 10 دول فقرا على مستوى العالم. وظلت البلاد تعاني من حكومة مركزية ضعيفة لقرون. وتبلغ معدلات الأمية حوالي 70%. وعليه، فإن بناء قوة أمنية قوامها 400.000 جندي، مثلما اقترح الكونغرس، ستكون مهمة شاقة في هذا الإطار، ناهيك عن تكلفتها السنوية التي ستكافئ 300% من إجمالي الناتج الداخلي الأفغاني.

لذا، يجب تحويل محور التركيز من بناء الأمة إلى عقد الاتفاقات. تكمن المشكلة المحورية في أفغانستان في أن البشتون، الذين يشكلون 45% من السكان وقرابة 100% من «طالبان»، لا يشعرون بأنه يجري تمكينهم. علينا أن نشرع في الحديث إليهم، سواء كانوا ينتمون اسميا لـ«طالبان» أم لا. وينبغي أن يصبح شراء أو استئجار أو تقديم رشوة إلى قبائل البشتون لب الاستراتيجية الأميركية لتحقيق الاستقرار في أفغانستان، مثلما كان الحال مع بريطانيا عندما حكمت أفغانستان.

الملاحظ أن جهود التواصل مع «طالبان» تعد حتى الآن محدودة وتفتقر إلى الحماس. يلقي البعض باللوم عن هذا الأمر على عاتق حميد كرزاي. العجيب في الأمر أن كرزاي نفسه يحاول الشروع في هذه العملية من خلال الدخول في مفاوضات مع زعيم «طالبان»، محمد عمر، الذي لم يبد من جانبه أي مؤشر على رغبته في إبرام اتفاق. إلا أن الحكومة الأميركية لا تزال مترددة للغاية حيال هذا الأمر هي الأخرى، أو ترغب على الأقل الانتظار حتى تتخذ قوات «طالبان» موقف الدفاع. لكن، مثلما أخبرني أحد المسؤولين الأميركيين، فإن «الانتظار بالتفاوض حتى تصبح في موضع قوة، أشبه بالانتظار ببيع أسهمك حتى تبلغ السوق ذروتها، فرغم أن الفكرة تبدو جيدة، ليس بإمكانك قط التعرف على التوقيت المناسب».

ينبغي أن تمتد جهود التوصل إلى اتفاق إلى المستويات العليا، مما يعني ضرورة توقف كبار المسؤولين الأميركيين عن التعامل بازدراء مع كرزاي، خاصة أنه ما من بديل أمامنا. أفغانستان بحاجة إلى زعيم بشتوني، في وقت يعد كرزاي قائدا مساندا لنا على نحو معقول. دعونا نفترض أن اتهامات الفساد وتزوير الانتخابات الموجهة له صحيحة، فهل يظن أحد بالفعل أن خليفته سيكون أكثر أمانة وفاعلية؟ إن الاستراتيجية الأمثل أن نستطلع ما إذا كان بمقدورنا دفع كرزاي للعمل مع خصمه الأكبر، عبد الله عبد الله، في إطار نوع ما من التحالف. في واقع الأمر، تخلق الانتخابات الملوثة الأخيرة فرصة لبناء حكومة وحدة وطنية.

هناك ثلاث سبل لتغيير الظروف الأمنية في أفغانستان، أولها: زيادة أعداد القوات الأميركية. ثانيا: زيادة أعداد القوات الأفغانية. ثالثا: تقليص أعداد قوات العدو من خلال دفعهم لتحويل ولاءاتهم أو التخلي عن أسلحتهم. فالاستراتيجية الثالثة هي التي أتت بنتائج جيدة للغاية في العراق، وهناك حاجة ملحة لتنفيذها الآن في أفغانستان. في غضون سنوات قليلة، ستبقى أفغانستان فقيرة وفاسدة وتعاني من الاختلال الوظيفي، لكن إذا أبرمنا الاتفاقات المناسبة، ستخضع لحكم قادة يبقون على البلاد كمكان غير ملائم لـ«القاعدة» والجماعات الإرهابية الأخرى المشابهة. وهذا، هو تعريفي للنجاح.

*رئيس تحرير «نيوزويك إنترناشونال»، ومؤلف كتاب «العالم بعد أميركا»

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ «الشرق الأوسط»