الأوضاع الفلسطينية: مساعي استتباب المرحلة الجديدة ومخاطر الاستقطاب

TT

«عند الشدائد تذهبُ الأحقادُ».. هذا عجُز بيتٍ من الشعر العربي القديم، يوضّح فيه صاحبُهُ أنه تَخلّى عن مخاصمة منافسه في زعامة القبيلة، عندما رأى أن النازلة الجديدة تهدّد القبيلة كلّها بما في ذلك المتنافسون جميعا، تمامُ البيت: «نَخَلَتْ له نفسي النصيحةَ إنه/ عند الشدائد تذهبُ الأحقاد».

قبل أيام مضى الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى نيويورك للاجتماع بالرئيس الأميركي باراك أوباما، وعلى جدول الأعمال أيضا اجتماع ثلاثي يضم إلى أوباما محمود عباس، ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. ومنذ أعلن الأميركيون عن الاجتماعين: المنفرد والثلاثي، انهمك اليمين الإسرائيلي في إبراز الانتصار الإسرائيلي، كما انهمكت حماس، والإعلام العربي «الممانع» في إبراز التراجع بل الانهزام من جانب سلطة محمود عباس! أما الإسرائيليون فقد اعتبروا أن مواجهة نتنياهو لجورج ميتشل في اجتماعهما الأخير، بعدم الموافقة على وقف الاستيطان، هو انتصار كبير، لأنه رغم إصرار نتنياهو على استمرار الاستيطان، فإن أوباما رضي أن يجتمع به، كما «انتزع» من محمود عباس موافقة على عقد اجتماع يضم الثلاثة! أما «هزيمة» عباس التي يحتفل بها الحماسيون والإعلام العربي المناضل أكثر من بني صهيون، فعلّتها أن محمود عباس والسلطة كانا قد ذهبا إلى أنه لا بدء للتفاوض مع إسرائيل قبل وقف الاستيطان، وها هو عباس يقبل بلقاء نتنياهو رغم استمرار الاستيطان!

ولنعُد إلى أصل المسألة. أمّا الإسرائيليون فكانوا قد قالوا إنهم يقبلون ببدء التفاوُض دون تعليقه بأي شرط. ثم «تنازلوا» بالقول إنهم يقبلون بأن يسبق بدءَ التفاوُض وقف الاستيطان خارج القدس، ما عدا النموّ الطبيعي (!) لستة أو تسعة أشهر. وأمّا فلسطينيو السلطة فاشترطوا أمرين: وقف الاستيطان بالكامل قبل بدء التفاوض، وأن يجري التفاوض بعد ذلك على مسائل الوضع النهائي (القدس والحدود واللاجئين والاستيطان)، وضمن مدة محدَّدة لا تزيد على السنتين، بحيث يجري الإعلان عن إقامة الدولة الفلسطينية في أمد أقصاه العام 2012.

والواقع أنه بعد الإعلانات الأُولى لدى الأطراف الثلاثة، فإن تعديلاتٍ طرأت على إعلاناتهم جميعا. فقد أصرّ الأميركيون في البداية على وفق الاستيطان، وعلى اتباع خارطة الطريق في التفاوض. ثم انصرفوا إلى التفاوض مع الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب الآخرين، لوضع آليات التواصل والتفاوض، وخلال ذلك طلبوا من العرب جميعا التقدم بمبادرات لبناء الثقة كما قالوا، ومن ضمن ذلك اتخاذ خطوات باتجاه التطبيع، لتشجيع الإسرائيليين على وقف الاستيطان، والاطمئنان على أمنهم وعلى التطبيع العربي معهم إذا وافقوا على إقامة الدولة بالحدود الدائمة لا المؤقتة كما اقترح نتنياهو ومن قبله شارون! أما الإسرائيليون فقد عدّلوا من موقفهم تحت وطأة الضغوط الأميركية عندما وافقوا على إجراء التفاوض بعد وقفٍ جزئي للاستيطان. وأوحوا أيضا أنه إذا وافقت الأطراف الأخرى على غضّ النظر عن استمرار الاستيطان ولو جزئيا، فإنهم مستعدون لتقبل خارطة الطريق، والحدود الدائمة! ولا يزال الفلسطينيون مصرّين على رؤيتهم السابقة، لكنهم «تنازلوا» بالموافقة على الاجتماع مع نتنياهو بحضور أوباما، ولم يعتبروا ذلك بدءا للتفاوض، بل هو تشجيع للأميركيين على الاستمرار في مبادرتهم، وفضح عدم إرادة اليمين الإسرائيلي الدخول في عملية السلام.

إن الواضح حتى الآن أن التصرف الاستراتيجي المبادِر هو من توجُّه الأميركيين الجديد. أمّا الإسرائيليون والفلسطينيون، فإن سلوكاتهم حتى الآن تكتيكية ولتقديم أوراق الاعتماد الملائمة للأميركيين وحلفائهم الأوروبيين وليس أكثر. والذي يغلب على الظنّ ـ بالنظر إلى الخبرة السابقة ـ أن الإسرائيليين ما نضجت لديهم القناعة بالدخول في عملية السلام التي تنتهي بإقامة الدولة الفلسطينية، ولذلك فإن المتاعب التي تنتظرهم لا تكمن في الاضطرار إلى وقف الاستيطان، بل في مسائل الحل النهائي وأهمّها مسألة القدس، وعودة اللاجئين. أما الفلسطينيون فهدفهم واضح رغم التكتيكات التقديمية: إقامة الدولة ومن ضمنها القدس العربية، والحدود الثابتة، وإيجاد حل وسط لقضية اللاجئين، ومستندهم في ذلك: امتناع العرب (الذين لم يعترفوا بإسرائيل وعلى رأسهم السعودية) عن السير في عملية التطبيع قبل قيام الدولة، ووعد إدارة أوباما بالسير في عملية السلام إلى النهاية.

إن المطلوب الآن، ومن أجل الدخول في المرحلة الجديدة بقوة، تحقُّق أمرين: الوحدة الفلسطينية الداخلية، والتمسك العربي الجماعي بالخطوط الكبرى لمبادرة السلام العربية. وحتى لو حصل الأمران، فإن النجاح في الوصول إلى الهدف الكبير (إقامة الدولة دون مستوطنات، ومن ضمنها القدس) يبقى غير مضمون، وذلك لسببين: أن الإسرائيليين ما أظهروا إرادة قوية في حل الصراع على أساس الدولتين، وأن الأميركيين قد لا يستطيعون إرغامهم على ذلك. لكن الدخول في المرحلة الجديدة بشرطيها (مرحلة التوحد العربي حول الأهداف الاستراتيجية) إن لم يتحقق عربيا، فإن ذلك يعني أنه لا أمل من أي نوع في الوصول إلى الدولة الفلسطينية، وفي استنقاذ القدس.

وفي الواقع فإن الشرطين مهدَّدان، ذلك أن الوحدة الفلسطينية لم تتحقق حتى الآن، كما أن هناك دولا عربية لا ترى فائدة في استمرار الالتزام العلني بالمبادرة العربية. وحُجّة الحماسيين وأنصارهم أن أهل السلطة في فلسطين ـ وهم خصومهم من حركة فتح ـ قد يخونون «القضية»، من طريق التنازلات دون قاع! هذا أمر لا يمكن أن يحصل على أي حال، لأن معناه ليس بقاء الأوضاع على ما هي عليه، بل انهيار سلطة فتح حتى في الضفة الغربية، وطغيان الاستيطان على القدس وأجزاء شاسعة من الضفة. ولذلك فلست أرى سببا لهياج إسماعيل هنية غير المماحكة، واستمرار الصراع على السلطة الوهمية، وعلى المكاسب العاجلة. فالمشكلة مع حماس أنها تعي أنه إذا حصل السلام فلا مستقبل لها، وإذا عاد النزاع المسلَّح، فلن تزيد حظوظها على ما كانت عليه من تردٍّ، عشيةَ حرب غزة الأخيرة. ولدى حماس وفتح وسائر الفلسطينيين على أي حال، فرصة أخيرة، اللقاء بالقاهرة في الأسبوع المقبل، وللتفاوض على أساس المشروع المصري. وكل تقدم باتجاه التوحد يخدم الفلسطينيين وقضيتهم، ويساعدهم في إعادة إعمار غزة، وفي وقف القتل والاعتقال في صفوفهم جميعا، بغضّ النظر عن المبادرة الأميركية، وهل تنجح أم لا.

وللنجاح والفشل أعباؤهما الكبيرة، التي لا يمكن تحملها أو مواجهتها إلا بالتوحد الفلسطيني، والإجماع العربي. فلو حصل التفاوض ونجح، واتجه الفلسطينيون بمعاونة العرب والمجتمع الدولي لإقامة دولة قابلة للحياة، فإن الفلاح في ذلك يقتضي توافقا فلسطينيا داخليا. وإلا فكيف يمكن التعاون لتجديد المؤسسات الدستورية الفلسطينية، ولإعمار غزة، وبناء مقومات الحياة الفلسطينية الجديدة؟! وإذا فشل التفاوض لأي سبب كان، فإن ذلك يقتضي تشاورا استراتيجيا فلسطينيا وعربيا للوصول إلى خيارات جديدة وبديلة للمبادرة العربية للسلام.

عند الشدائد تذهبُ الأحقادُ. وتذهبُ الأحقاد أيضا في الأفراح والانتصارات. لكننا اليوم وبالأمس لسنا بصدد الانتصارات، بل بصدد تحديد الخسائر والحد منها، ولملمة الأطراف المتشرذمة، وإخراج أطفالنا وشيوخنا من مخاطر النزاعات والمجاعات، وإخراج شبابنا من هاويات الذل والقتل والمعتقلات. وهذه جميعا شدائد تتطلب مسؤولية عالية، وصبرا مؤلما وقاسيا. وهي اختبار جديد للإيمان والرجولة والمروءة، والنظر إلى المستقبل بأعين وعزائم الأمل والعمل.

ملاحظة: كنت أكتب هذه الكلمة عندما أُعلنَ عن نجاح أوباما في إقناع نتنياهو بوقف الاستيطان مؤقتا (باستثناء النمو الطبيعي!). ولذلك دلالات على الجدية الأوبامية، والتحايل الإسرائيلي. لكنه تحدٍّ للفلسطينيين قد يُضطرون إلى الاستجابة له. إذ إنهم ما بدأوا التفاوض إلا بعد وقف الاستيطان، رغم أنها تبقى هدنة على دَخَن. وما زال الأمر في بداياته.