دار الحكمة الثانية

TT

«دار للحكمة ومنارة للتسامح»، هكذا يحدد الملك عبد الله بن عبد العزيز هدفا من أهداف إنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، التي دعا إليها قادة دول وشخصيات دولية مهمة في عرس سعودي مزدوج، تضافرت فيه ذكرى اليوم الوطني لتأسيس «المملكة» مع انطلاقة «دار الحكمة» الجديدة على ضفاف البحر الأحمر، حتى تأخذ من البحار معناها الواثق في الانفتاح على كل الجهات وما تحمله البحار من أسرار وثقافات المسافرين من كل سكان الأرض.

سماها الملك دار الحكمة، وهو اسم يهز الوجدان التاريخي، وحدد لها معاني منها أنها ليست غريبة على جسد الحضارة الإسلامية، بل هي استئناف للنشاط العلمي والفكري الذي تعثر كثيرا في تاريخ المسلمين، رغم إسهامات علمائهم الكبار أمثال ابن النفيس في الطب والخوارزمي في الجبر وابن خلدون عالم الاجتماع، فهي، أي دار الحكمة السعودية الجديدة، استئناف لمسيرة عطلها «قطاع طرق الحضارة»!

وهي حينما تنطلق فهي إنما «تكمل» وليست تبتدع شيئا جديدا أجنبيا، وهي رسالة تطمين، بل وتوبيخ، لمن جعل الارتباط بالإسلام يوازي الفقر المعرفي والذعر الحضاري، وأن الخيار الأفضل لنا أن ننحشر داخل قارورة الجهل والترقب، بذرائع الهوية وحماية الذات ومقاومة «الغزو الثقافي» المزعوم. إذن فدار الحكمة الجديدة هي «ترميم» وبعث لدار الحكمة القديمة، التي أنشأها الأجداد وأهملها، بل حاربها الأحفاد.

العلم ليس على عداء، أو هكذا يجب، مع «الإيمان» كما يتوهم من يحتكر لنفسه وظيفة حماية الإيمان الذي هو جوهر الدين والتدين، إذ إن الشعائر والطقوس التي يتعلق بها الكثيرون تعلقا قشريا ليست إلا تجسيدات للإيمان، الأهم هو الإيمان، فهو جوهر الجواهر، وإذا انتفى انتفى معه كل شيء، لذلك فجريمة، وغباء، أن يضع البعض العلم، الذي هو أرقى تجارب الإنسان، في صدام وحرب مع الإيمان، لأنه بذلك يرتكب جناية على الاثنين: الإيمان والدين.

إنشاء «دار الحكمة السعودية الجديدة» هذه، أكبر وأقوى رد على كارهي الحوار وناشري التعصب والتطرف، وهم بالمناسبة، ليسوا الإرهابيين فقط! فإنشاء جامعة سعودية «عالمية» و«علمية» عدد طلابها السعوديين الآن 100 طالب فقط ورئيسها شخص سنغافوري، أكبر دليل على أنه بالإمكان، للخطاب السعودي مع العالم، أحسن مما كان..

بالأمس، الأمس البعيد، أيام المأمون العباسي عراب دار الحكمة الأولى، كان هناك أعداء له ولمشروعه، من كل الشرائح، وللأسف ضرب مشروع الحكمة الأولى، الذي كان نقطة اللمعان العلمي الذهبي في تاريخنا كما يقول المؤرخون، فلا تضرب مرة أخرى دار الحكمة الثانية وتراق أحبارها على ضفاف البحر الأحمر!

[email protected]