لماذا خسر العرب اليونيسكو؟

TT

عندما قرأت تصريحات السيدة سيمون فيل عن انتخابات اليونيسكو قبل يوم واحد من حسم النتيجة عرفت أن فاروق حسني لن يكون المدير العام الجديد. فسيمون فيل لمن لا يعرفها هي شخصية يهودية شهيرة ناجية من المحرقة الأشهر، وتحظى باحترام عام في فرنسا، بل وعلى مستوى الغرب ككل. إنها تشكل نوعا من الضمير العالمي، ولذا فإن كلمتها مسموعة جدا هنا. قالت في المقابلة التي سبقت النتيجة بساعات: «اليونيسكو بحاجة إلى شخصية قوية تضمن الانفتاح على الجميع». المقصود بذلك الانفتاح على جميع الثقافات واللغات بما فيها الثقافة الإسرائيلية واللغة العبرية. وعلى الرغم من أن فاروق حسني تعهد بذلك وتراجع عن مواقفه السابقة المضادة للتطبيع فإنها اعتبرت غير كافية من قبل المنظمات اليهودية وبعض الشخصيات الثقافية. أقول ذلك على الرغم من أن جان دانييل رئيس تحرير مجلة «النوفيل أوبسرفاتور» كان قد صرح بأن فاروق حسني ربما كان صادقا في توبته عن مواقفه السابقة المضادة للسامية والداعية إلى حرق الكتب العبرية في المكتبات المصرية. وجان دانييل هو أيضا شخصية يهودية نافذة جدا ولكن في جهة اليسار المستنير لا في جهة اليمين الوسطي كمدام فيل. ويرى جان دانييل، وهو من يهود الجزائر والمتفهمين عموما للقضايا العربية والفلسطينية: «إن فاروق حسني رجل علماني مضاد للبس الحجاب، ولكنه لم يفعل شيئا لتخفيف آلام المثقفين المضطهدين أو المسجونين من قبل نظام يخدمه منذ أكثر من عشرين عاما».

هذا الكلام لجان دانييل عنيف في الواقع ويعني أنه مضاد لانتخاب فاروق حسني. فإذا كان الرأي العام اليهودي المستنير ممثلا بشخصه مضادا لهذا الانتخاب فما بالك بالآخرين؟ لكنْ هناك أسباب أخرى لفشل الوزير المصري، ولا ينبغي أن نلقي بكل شيء على كاهل أولاد عمنا اليهود مرددين نفس المعزوفة: اليهود يحكمون العالم! لا ريب أنهم أقوياء جدا بفضل ذكائهم وعبقريتهم ودهائهم وهضمهم للحضارة الحديثة. ولم يبلغوا في تاريخهم كله مثل هذه الدرجة من النفوذ التي بلغوها الآن. ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد أحد في العالم غيرهم! فعددهم لا يتجاوز خمسة عشر مليونا في كل أنحاء العالم. ثم لا ينبغي استغباء البشرية وكل شعوب الأرض إلى مثل هذا الحد.

هذه مبالغة كثيرا ما نقع فيها نحن العرب المهووسين بنظرية المؤامرة وإلقاء مسؤولية فشلنا دائما على الخارج دون أن ندرك أن العلة قد تكون فينا. ينبغي الاعتراف بأن فاروق حسني لم يكن محظوظا إذ وجد أمامه امرأة شابة، جميلة، ذكية، لامعة، وتعرف اليونيسكو من الداخل جيدا لأنها سفيرة لبلادها فيها منذ بضع سنوات.

فالسيدة إيرينا بوكوفا الرئيسة الجديدة المنتخبة لليونيسكو في السابعة والخمسين من عمرها، هذا في حين أن منافسها فاروق حسني تجاوز السبعين. ثم إنها أول امرأة تحظى برئاسة اليونيسكو! وهذا شيء هام جدا. فوصول السيدات إلى المناصب العليا أصبح شائعا جدا ومرغوبا من قبل الغرب والشرق هذه الأيام. لو كان مقابله رجل لكان فاروق حسني قد نجح على ما أعتقد في نيل هذا المنصب الرفيع، ولكنه وجد أمامه امرأة في عز شبابها وكانت قد ساهمت سابقا في الانفتاح السياسي لبلغاريا على العالم والانتقال من مرحلة الشيوعية التوتاليتارية إلى مرحلة الديمقراطية الليبرالية الدستورية التعددية.

كل هذا لعب دورا كبيرا لصالحها ضد فاروق حسني، فقد وجد المنتخبون أنفسهم أمام خيار صعب لأنهم إذا ما أسقطوها فكأنهم يسقطون الديمقراطية ومسيرة شعوب أوروبا الشرقية نحو الحرية. لكل هذه الأسباب فشل فاروق حسني وخسرنا معركة اليونيسكو. فالخسارة ليست له وحده، وإنما لنا جميعا لأننا لم نعرف حتى الآن كيف نواجه هجمة إسرائيل من جهة، ثم التخلف والاستبداد السياسي والفقر والجوع والمحسوبية والفساد والرقابة القمعية على الفكر من جهة أخرى. وأخشى ما أخشاه هو أن نكون قد خسرنا معركة الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر في آن معا! وعلى أي حال فإن العالم العربي لا يعطي للخارج صورة القادر على قيادة العالم ثقافيا أو حتى الجدير بذلك. وهذا يعني أن مسيرتنا نحو الانفتاح والديمقراطية والحرية والتسامح الديني لا تزال طويلة، والصورة السوداء المشوهة التي لحقت بسمعتنا في السنوات الأخيرة يصعب محوها بسهولة. حقا، لقد سبقتنا شعوب أوروبا الشرقية، ولكن المستقبل أمامنا، المستقبل يدوم زمنا طويلا كما يقول الفيلسوف لويس ألتوسير. والعرب لم يقولوا كلمتهم الأخيرة بعد!