(توطين العلم).. في مركز إشعاعه الأول

TT

لنتناول ـ بالتحليل والتأصيل ـ (مفردات) عنوان المقال التي تترجم موضوعه وتلخصه:

1. فـ (التوطين) مشتق من (الوطن) بمعنى (جعلتَ الشيء في وطن)، بل ثبته فيه تثبيتا، ورسخته ترسيخا.. والمقصود بالوطن ـ ها هنا ـ هو أرض الحرمين الشريفين، ومهبط الوحي، ومبعث النبوة الخاتمة: المملكة العربية السعودية.

ولئن كان الابتداء بهذه المفردة مقتضى موضوعيا من حيث الترتيب المنهجي أو الفني للكلام، فإنه مناسب ـ زمنيا ـ من حيث التوقيت.. ففي مثل هذه الظروف قبل ثمانين عاما ـ تقريبا ـ وحّد الملك عبد العزيز معظم أرجاء شبه جزيرة العرب. تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي ظل حكومة مركزية واحدة: واضحة الرؤية، حاسمة القرار، مهيبة الجانب.. ولكي تزداد الأجيال الجديدة وعيا وإحساسا بقيمة الوحدة الوطنية، وبإنجاز بانيها العظيم، ينبغي أن نستحضر ـ من خلال تنشيط الذاكرة ـ: الظروف التي كانت سائدة يومئذ، والتي كانت كلها صعابا هائلة في طريق الوحدة: ظروف الجهل والتشتت والفرقة والتناحر والتقاتل بين القبائل والمناطق المختلفة.. وظروف انعدام الأمن والاستقرار ـ بالتالي ـ.. وظروف التفتت في الوطن العربي والعالم (الإسلامي بفعل الاستعمار الذي مزق الأمة شر ممزق.. في وجه هذه الأعاصير العاتية ـ المحلية والخارجية ـ سَبَحَ الملك عبد العزيز ضد التيار السائد الغالب، وشق الأمواج المتلاطمة بذراعين قويتين وأقام الوحدة العظيمة الراسخة: مستعينا بالله متوكلا عليه. ومستعينا ـ من بعد ـ برجال حوله: أعانوه على حبك نسيج الوحدة التي ابتهج لها ليس أهل البلاد فحسب، بل ابتهج لها ـ كذلك ـ مفكرو الأمة ـ على ما بينهم من تفاوت أيدلوجي ـ: ابتهج لها ـ مثلا ـ ساطع الحصري القومي العروبي المعروف، كما ابتهج لها ـ في الوقت نفسه ـ: محمد البشير الإبراهيمي شيخ علماء الجزائر.. وكلاهما كتب ما يدل على فرحته بهذا الإنجاز الفريد السعيد في التاريخ المعاصر للعرب والمسلمين.

2. مفردة (العلم)، أي العلم بـ (الكونيات): بحثا وتطبيقا.. ففي اليوم الوطني نفسه: دشّن العاهل السعودي (جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية).. ومن ثم تكونت جملة (توطين العلم).. فهذا وطن ضخم موحد: يحتضن جامعة عملاقة ـ ذات طابع عالمي ـ وهو احتضان خليق بمصطلح (توطين العلم)، بمعنى أن هذه الجامعة ستجعل الوطن وعاء وموطنا للعلوم والمعارف الإنسانية التي أبدعتها البشرية في مسيرتها الطويلة. ولا سيما في القرون الخمسة الماضية، وبالأخص في القرن العشرين.

3. مفردة (في مركز إشعاعه الأول).. هذا هو (المقطع الأخير) من عنوان المقال وموضوعه.

ولنتأمل في المركّب الكلي للعنوان (توطين العلم في مركز إشعاعه الأول).. ثم لنسأل: بحرية وموضوعية منهجية: ما معنى (مركز إشعاعه الأول)؟

هذا التعبير أو المفردة ليس للمباهاة التاريخية، أو للطرب العاطفي. بل هو (حقيقة موضوعية) قامت عليها عشرات الأدلة والبراهين، وهي حقيقة ينبغي أن تتكثف الدراسات والبحوث حولها حتى تصبح (مسلّمة) يعرفها (الأكاديميون) كما يعرفها المثقفون، ومحدودو المعرفة.

لماذا؟

أولا: للتحرر القوي من أغلال طرفين متناقضين في الأمة:

1- طرف (تدليل) الذات عبر التغني المجرد بما صنعه الأسلاف في هذا المجال.. ولا يفتأ هذا الطرف يجبهك بـ (التراث) كلما حدثته عن جديد في هذا العلم أو ذاك. فإذا حدثته عن معرفة جديدة سديدة في علم الاجتماع، قال لك: عندنا ابن خلدون.. وإذا حدثته عن ابتكار رائع ـ غير مسبوق ـ في العلوم السياسية، قال لك: عندنا الغياثي للجويني، والأحكام السلطانية للماوردي وأبي يعلى!!.. وهذه أقاويل لا تغني عن الحق ولا المعرفة شيئا، وليس ينفع الأجيال الجديدة: التشدق بما فعله الأسلاف فالقاعدة المعيارية العلمية الحاسمة هي: «وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى».. وهذه القاعدة تؤكد أن معظم العلوم والتقنية في هذا العصر هي (من سعي غير المسلمين)، وأن على المسلمين ـ من ثم ـ أن يجلسوا بتواضع تام ـ ودون عُقَد ولا كِبر ـ للتلمذة على غير المسلمين ليأخذوا عنهم ما سبقوا إليه مما فتح الله عليهم به.

2- الطرف الآخر النقيض في هذا الحقل هو الذي ينزع إلى جلد الذات بقسوة، بل إلى اغتيالها من خلال الكفران المتعمد بـ (روائع التراث)، فهو طرف.. يمتلئ اشمئزازا إذا سمع ابتكار علميا مطبوعا باسم الرازي أو الكندي أو ابن الهيثم أو جابر بن حيان أو ابن النفيس، وكأنه يقول: «يستحيل أن يبتكر العرب والمسلمون شيئا لأن التخلف العلمي مغروس في صميم جيناتهم»!!.. وهذه خرافة بلا ريب، ذلك لأن في كل إنسان سويّ ـ أيا كان عرقه ـ نحو 18 مليار خلية عقلية تؤهله للتقدم والنهوض (إذا صح التعليم والتربية والتوجيه) ومما لا ريب فيه أن العرب والمسلمين ناس من الناس!.. ثم إن هذا التحقير الشديد للذات ليس من حوافز التقدم.. يقول جوته: «إن شر الأضرار التي يمكن أن تصيب الإنسان هو ظنه السيئ بنفسه».. وهذا حق. فإذا دأب المعلمون والأساتذة على صياغة عقليات طلابهم بمفاهيم: أنتم لستم أهلا للتعلم والإبداع والتقدم، فإن حصيلة هذا التعليم المحبط: تخريج أجيال فاقدة الثقة بنفسها، سيئة الظن بمواهبها وقدراتها.. وهذه دعوة عامة للتخلف العام!!

ثانيا: من أجل (تنوير) الأجيال البشرية الجديدة ـ في العالم كافة ـ بـ (حقائق تاريخ العلم والتكنولوجيا ومسار تقدمهما وتطورهما)، وهو (تاريخ بشري عام) لا يمكن أن تحتكره أمة واحدة من الأمم.. وفي مقدمة هذه الحقائق: أن أشعة النهضة التنويرية العظمى (إيقاظ العقل وتفجير طاقة الفكر والدفع إلى تسخير الكون والتعامل الجسور معه).. أشعة هذه النهضة: انبثقت من ذات الأرض التي تحتضن جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية.

وهذا هو البرهان الذي لا راد له، وهو برهان آثرنا أن يقدمه علماء ومفكرون (غير مسلمين): ابتغاء مزيد من النزاهة والحيدة والموضوعية والأمانة والصدق:

أ ـ «صعد الإسلام صعودا فجائيا. وكان الأثر المباشر لذلك هو التنشيط الكبير للثقافة والعلوم. وقد أصبح الإسلام نقطة التجمع للمعارف الآسيوية والأوروبية، ومن ثم تدفقت في هذا المجرى المشترك سلسلة من المخترعات لم تكن معروفة ولا متاحة للتكنولوجيا اليونانية والرومانية».. جون برنال في كتابه (العلم في التاريخ).

ب ـ «لقد تمت للعرب في حقول العلوم الرياضية والطبية والطبيعية ضروب كثيرة من التقدم، ولا شك أنهم وفقوا إلى مستنبطات هائلة في المعادن، وفي التطبيق الفني لها، ولهذه التطبيقات قيمة قصوى، وأثر عميق قي نهضة العلوم في أوروبا».. هربرت ويلز في كتابه (موجز تاريخ العالم).

ج ـ «وإذا كان التفاعل قد أسفر عن حضارة مثيرة للإعجاب، فذة الشخصية، فالفضل في ذلك يعود إلى العقيدة الإسلامية التي فجرت طاقات العرب، إذ كان الإسلام حاسم الأثر في مسار الإبداع الثقافي».. جون بادوا في كتاب (عبقرية الحضارة العربية).

د ـ «في قصة الإنسان: تُكوِّن الحقبة العربية الإسلامية فصلا كبير الأهمية، فقد كانت واحدة من ثلاثة عصور علمية كبرى في العالم، فهي تتوسط الطريق لتقيم حلقة تصل بين (جنين العلم) عند الإغريق وبين (مولد العلم والتكنولوجيا) في العصر الحديث. ولقد أبدى العرب شعورا عمليا في بعثهم وإحيائهم لعلوم العالم التي أصابها النسيان أو الإهمال، كما أبدوا توسعا فيها».. ستانوود كمب في كتابه (المسلمون في تاريخ الحضارة).

هذا تاريخ علمي معزز ـ بعشرات البراهين ـ: يوثق حقيقة المشاركة العربية الإسلامية الفاعلة في تأسيس النهضة العلمية والتكنولوجية الحديثة في عالمنا وعصرنا.. وهذا (إحياء عقلي معرفي كوني) تلألأ نوره في جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي. فقد كان من المطالب الأولى للقرآن: تحرير العقل من الخرافة، وإيقاظه من غيبوبته، وإذابة جلاميد الجمود المطبقة عليه. وهذه هي البداية الحقة لأية نهضة، إذ لا نهضة حقيقية ـ في أي حقل ـ: في غياب العقل أو في حالة تحجره وجموده.

والقرآن الذي فجر هذا الإحياء العظيم إنما تنزل في المحيط الجغرافي الذي يشهد اليوم قيام جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، أي قيام الجامعة في مركز الإشعاع الأول لنهضة المعارف الكونية خلال القرون العشرة الماضية.

وهكذا يصل السعوديون الحاضر بالماضي وصلا لا يعتمد على المباهاة الجوفاء، وإنما هو وصل لحاضر معرفي مجيد، ـ بماض معرفي مجيد.. ولقد أكد الملك عبد الله في حفل تدشين الجامعة على العلاقة المعرفية العميقة والمستمرة بين ماضينا الزاهر وحاضرنا الناضر فقال ـ بوضوح وثقة ـ: «إن الحضارة الإسلامية كان لها دور عظيم في خدمة الحضارة الإنسانية في مجال علوم الطب والكيمياء والجبر وغيرها، لذلك فإن هذه الجامعة التي نحتفل بافتتاحها لا تبدأ من الصفر فهي استمرار لما تميزت به حضارتنا في عصور ازدهارها، وهذا هو المعنى الأول للجامعة».

بقي أن نقول: إن هذه الجامعة المعرفية العملاقة ليست بديلا للجامعات السعودية الأخرى، لأن الجامعات يكمل بعضها بعضا، ولأن البلاد في حاجة شديدة إلى كل جامعة ترتقي بمواهب الأجيال وطاقاتهم، ولأن الرجل الذي أمر بإنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية هو نفسه الذي أمر بإنشاء جامعات جديدة عديدة، وهو الذي دعم الجامعات الأخرى العريقة بالتشجيع والحفز.. وبالميزانيات الجزيلة.