منصة الأمم المتحدة ومؤامرة يونسكو

TT

واقعتان على مدى 24 ساعة، جعلتنا، كمراقبين للأحداث ومعلقين عليها في الإعلام العالمي، نفكر مليا في نظرة العالم لسياسة وثقافة الدول الأعضاء في الجامعة العربية ومدى مصداقية اتهام العرب «للغرب» بالاستعلاء، والعنصرية، ومعاداة العرب والإسلاموفوبيا.

الأولى مدى استخدام زعيم عربي، هو الكولونيل معمر القذافي، لفرصة غير مسبوقة منذ توليه حكم ليبيا عام 1969 بانقلاب عسكري وليس بالانتخابات (والتناقض باتهامه الأمم المتحدة بأنها غير ديموقراطية!).

فرصة مخاطبة ممثلي 192 دولة دون مقاطعة، والملايين حول العالم في الإذاعات والشبكات التلفزيونية بمختلف اللغات.

كان أمام أكثر حكام العرب وافريقيا شهرة لدى الصحافة عام لإعداد كلمته، ولديه إمكانيات مالية لتوظيف أفضل المستشارين الاستراتيجيين والقانونيين ومتخصصي صياغة الخطب السياسية.

فماذا فعل الكولونيل صاحب الأزياء الخاصة والروايات الأدبية والخيمة المتنقلة والحرس الحريمي بالفرصة التاريخية؟

اتهم شركات الأدوية باختراع فيروس أنفلونزا الخنازير للربح ببيع المصل الواقي، واليهود باغتيال الرئيس جون كنيدي لأنه حقق في إنتاج إسرائيل سلاحا نوويا؛ وطالب بنقل مقر المنظمة إلى دلهي، وإجراء تحقيق لمعاقبة مدبري اغتيال أبراهام لينكولن عام 1865!

الواقعة الثانية هيستريا الصحف المصرية والعربية أمام الخسارة المتوقعة لوزير الثقافة المصري، فاروق حسني، لانتخابات اختيار السكرتير العام لمنظمة الفنون والثقافة والمعارف يونسكو UNESCO (وتعمدت استخدام كلمة «المعارف» بدلا من التعليم لوصفEducation للفارق المفهومي بين الاثنين، وهو فارق يعتبر أحد أهم أسباب إخفاق المرشح المصري).

صحافة مصر والعرب، يمينا ويسارا، حكومة ومعارضة لم تحاول تشريح جثة الخسارة لمعرفة أسبابها بل اعتبرتها مؤامرة الغرب على مصر، والعرب، والمسلمين؛ واعتداء من الشمال الغني على الجنوب الفقير.

اتهمت صحف مصر والعرب بلدان الجنوب النامية (التعبير المهذب للبلدان المتخلفة) بـ«الخيانة» لأنهم لم يصوتوا لـ«غلبان» جنوبي مثلهم. موقف يعكس سيطرة التفكير القبلي Tribalism الذي يعتبر عدم محاباة من يعتبرونه «منهم» إلى موقفهم، بصرف النظر عن الموضوعية، «خيانة».

وقد تعودت تلقي التهمة من العرب لـ40 عاما كلما ظهرت معلقا في تليفزيون عالمي، رغم عدم انتمائي لايديولوجية سياسية (حالتي المهنية ككاتب مستقل لا يتلقى مرتبا ثابتا ترغمني على الحياد حتى لا تغلق أمامي بعض فرص الرزق إلى جانب الحرفية المهنية لجيلنا القديم). فلأن اسمي يخلو من «ريتشارد» أو «تشارلز»، يضعني العرب في خيمة «منهم» القبلية (رغم جهل معظمهم بأصولي العرقية).

ويصبح تحليلي المحايد مثلا لإشعال حزب الله حربا مع إسرائيل وحماس لحرب ثانية، بينما دفع المواطنون الأبرياء في لبنان وغزة ثمن المغامرتين، دليلا على «خيانتي» في العقلية القبلية.

ففشلي في «بيع الترام» للمشاهدين البريطانيين بتفسير خراب لبنان وخراب غزة بأنه انتصار لحزب الله ولحماس، ووصفي لابن لادن بالإرهابي وليس بـ«الشيخ» هو خيانة.

فسر المعلقون العرب خسارة يونسكو مرة بتسييس الشمال الغني للمنظمة، ومرة أخرى برشوة الدول الفقيرة كي لا تعطي صوتها لابن قبيلة الفقراء حسني (لماذا مثلا لم يرشهم العرب كالقذافي الذي ينثر ملايين الدولارات من سيارته على الأفارقة، أو كبلدان صغيرة تضخم من شخصيتها بوسائل أكثر ذكاء من الطريقة القذافية؟).

ثم اتهموا الصهيونية العالمية والمنظمات اليهودية بالتآمر ضد حسني.

وردود الفعل المصرية والعربية جاءت فوتوكوبي للاتهامات نفسها قبل عشر سنوات عندما لم ينجح الصديق الأديب الشاعر السعودي غازي القصيبي، وقت كان سفيرا للمملكة السعودية في لندن، في تبوؤ المنصب نفسه الذي ضاع من حسني.

أيامها زادوا على التبريرات انقسام أصوات البلدان العربية والإسلامية بين مرشحي مصر والسعودية؛ واتهام اليابان برشوة الصغار بمشاريع ثقافية للتصويت لمرشحها.

هذا الأسبوع تهرب المعلقون، مصريين وعربا، من الأسباب الحقيقية. يونسكو ابنة الأمم المتحدة يظهر جمالها بارتداء الميثاق العالمي لحقوق الإنسان والتزين بمواده. لكن مواده تنتهكها «عيني عينك» أو تتحفظ عليها دساتير البلدان الأعضاء في منظومة الجامعة العربية وبعضها لم يوقع على الميثاق.

فمواد كالمساواة العرقية، والمساواة بين الجنسين، وحرية اختيار العقيدة أو تغييرها، وحرية التعبير، غالبا ما تنتهك أو تناقضها مواد الدساتير. بل هناك إجراءات في بلدان عربية تعاقب من يمارس أو تمارس حقه أو حقها الذي ضمنه الميثاق الصادر عن أم يونسكو، الأمم المتحدة.

هذه الحقوق لا تنتهك في بلد المرشحة الفائزة إيرينا بوكوفا. فبلغاريا يا سادة تمردت على الدولة البوليسية الستالينية واحتضنت الديموقراطية وحرية الفرد في الاختيار وحرية التعبير. ولا توجد فيها محاكم حسبة تكفر الكتاب والمبدعين، وشعبها (أتراك وغجر وألبانيين وسلافيين وأروام) متعدد الأديان ولا تصدر مؤسساتها الدينية الفتاوى بمصادرة الكتب وحرقها بينما الدولة بمجلس وزرائها تتفرج صامتة؛ ولا يشارك البوليس البلغاري في فضيحة منع الكتب بمداهمة محلاتها بهمجية.

وقد حاولت دعم فاروق حسني، لكن كلما أثرت الأمر مع معلقين غربيين يتكرر التساؤل عن التناقض بين الشخص الذي أقسم لهم أنني أعرفه فنانا يؤمن في قلبه بالحرية وبمبادئ يونسكو، وبين السياسة العملية لوزارة الثقافة التي يترأسها؛ ولماذا لم تتحرك وزارته لمنع مصادرة الكتب أو لضمان حرية التعبير؟

موقف معاكس لعام 1992 عندما كنت أول صحفي في الغرب يشرح خطط شيخ الدبلوماسية المصرية الدكتور بطرس بطرس غالي لتطوير الأمم المتحدة ومؤسساتها كمرشح افريقيا الفرانكفونية لمنصب السكرتير العام. ورغم معارضة بريطانيا والأنغلوفون له، أقنعت الزملاء في صحيفتي (الإندبندنت وقتها) بسهولة بدعمه؛ ونشرنا سلسلة مقابلات معه ومع منافسه الأمير صدر الدين أغاخان؛ فتفوق الدبلوماسي المصري العتيد على مفوض المنظمة للاجئين وأصبح السكرتير العام في مرحلة تاريخية سميت بالنظام العالمي الجديد (ولم يحتج يهود العالم وقتها بأنها مؤامرة البترول العربي).

والأربعاء أمسك الكولونيل القذافي بميكروفون العالم.. والنتيجة؟..

أكد الصورة النمطية عن الشرقيين. كلمته أطول من ماتش كرة القدم بدلا من 15 دقيقة، وأدى إلى لخبطة جدول رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون بتأخيره ساعة وربع. واضطر براون لارتجال ثلث كلمته ليدافع عن الأمم المتحدة وميثاقها الذي مزقه القذافي في خطاب سيدخل التاريخ على أنه الأكثر خلطا وتشويشا وتفككا وعبثا في تاريخ الجمعية العمومية.

وجدت نفسي في حيرة وأنا أعلق على الجلسات لمشاهدي البي بي سي (وزادت آلام عمودي الفقري المصاب بسبب الجلوس لساعتين في الاستوديو)، محاولا أن أضع مطالب وعبارات القذافي المتناقضة في إطارها التاريخي (خاصة للشباب دون الستين) فلم أجد إطارا واحدا على مقاس أي منها.