كلمات وثقافات: القندرة!

TT

في تقريره بالـ«سي إن إن»، يستغرب مذيعها جوناثان مان من أن يحظى رجل كمنتظر الزيدي ـ صاحب الحذاء الشهير الذي رمى به الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ـ بكل ما حظي به من تقدير وتشجيع ووعود بالمكافآت والهدايا، بل وحتى الزيجات بعد خروجه من السجن الأسبوع الماضي. ويتساءل مان متعجبا «أكل هذا من أجل حذاء؟».

إن تعدد الكلمات في لغة ما لتعطي نفس المعنى، يعكس عمق ذلك المعنى وانتشاره في ثقافة تلك اللغة. فعلى سبيل المثال، تتعدد الكلمات التي تعني الأسد باللغة العربية، فيقال مرادفا لمعناها ليث وضرغام وهزبر وغضنفر وأسامة وسبع وغيرها. مما يعني أن الأسد كان موجودا في البيئة العربية وشكل جزءا منتشرا في مفاهيمها الثقافية. كما أن للخمر أسماء متعددة ـ على الرغم من تحريمها ـ فهي الراح والصهباء والخندريس والشراب والقهوة وغيرها، كدليل على موقعها الثقافي العربي، ومؤشر على شيوع شربها حتى بعد ظهور الإسلام، وعلى العكس من ذلك، لا توجد كلمة مرادفة للخنزير في اللغة العربية، وذلك للالتزام بتحريم لحمه وعدم تناوله من قبل المسلمين بشكل عام. لكن الخنزير يحضر بمرادفات كثيرة في اللغة الإنجليزية مثلا حيث يؤكل ويربى ويشكل جزءا ثقافيا هاما.

وعلى العكس من الخنزير تتكاثر المرادفات لكلمة الجمل بلغتنا: فهو بعير وناقة وعشواء وراحلة وبكرة وقعود إلخ.

وللثلج مرادفات تصل إلى العشرات في لغة الإسكيمو، فهناك كلمات للثلج والجليد والثلج القديم والثلج الذي هطل للتو، والثلج القطني والثلج الخفيف وهكذا. لكن مرادفات الثلج بالعربية شبه معدومة لعدم هطوله أو ندرته في بيئة الجزيرة العربية مهد اللغة العربية.

ما يلبس بالأرجل وينتعل بها يسمى بالعربية «حذاء» أو «خف» أو «نعل»، ولعل هذه هي الكلمات الثلاث الوحيدة الموجودة باللغة العربية كمترادفات لنفس المعنى تقريبا. وللنعل في ثقافتنا العربية ـ وربما في ثقافات أخرى ـ معنى سلبي جدا، فالكلمة تستعمل للشتيمة، وتستخدم للسخرية في بعض الاجتماعات الرسمية العربية فتقرأ جناسا في عبارة «عقدوا اجتماعا على مستوىً عال»، حيث تفهم «مستوى نعال». ويتناقض مفهوم القذارة التي يمثلها النعل مع تلك التي يعنيها الخف للطهارة، فأجاز الدين الإسلامي «المسح على الخفين» في حالة الوضوء. لكن الخف رمز للإفلاس في المثل العربي «رجع بخفي حنين».

للنعل كلمات مستوردة من لغات أخرى، فهو الشبشب في مصر، والشحّاطة والقبقاب والاسركبينا في سوريا، والزنوبة والجوتي بالخليج، ويسمى القُندرة بالعراق ولعلها مستعارة من الفارسية، وتستخدم كفعل، فيقولون: «فلان مِتْقَنْدر»، أو «صار مثل القندرة» كناية عن السكر الشديد وذهاب الخمرة بعقله. والقندرة شتيمة شائعة في العراق، فكثيرا ما تسمع من يقول «فلان قندرة ابن قندرة»، وتقلب القاف كافا في بلاد الشام وهي أكثر شيوعا في فلسطين.

الملاحظ أن أكثر الكلمات المستعملة باللغة العربية والتي تعني حذاء هي كلمات مستعارة من لغات أخرى، ولعل هذا دليل على عدم شيوع ثقافة الحذاء اللغوية أو ربما ندرة استخدام الحذاء في ثقافتنا أصلا، بل إن من يصلح الحذاء ويمدد عمره الافتراضي يسمى «إسكافي» وهي كلمة ليست بعربية.

نخلص إلى ضعف ثقافة النعل عند العرب، لكن الزيدي أدخل مفهوما ثقافيا جديدا باستخدامه الحذاء في وجه رئيس دولة من قبل صحفي، وتلك سابقة لم يفعلها أحد قبله، ولعله أسس لثقافة رمي الحذاء في وجوه الساسة الذين نختلف معهم حتى وإن كنا صحافيين، وبالذات في بغداد، لأنه في العهد الجديد بها يمكن أن ترمي رئيس أكبر دولة في العالم بحذاء ثم تمضي شهورا بالسجن لتخرج بعد ذلك وتستقبل استقبال الأبطال..

خروج الزيدي من السجن دخيل على ثقافتنا وجديد في عصرنا العربي العتيد.