الموجز في تاريخ الكرسي

TT

لا أقصد بالكرسي هنا آية الكرسي، تلك الآية المليئة بالأبعاد الفلسفية والروحية التي طالما أصبح العراقيون يلجأون لتلاوتها بعد أن ضاقت بهم الوسائل. كلا، أقصد بالأحرى الشيء الذي أصبح القوم يتنافسون ويتقاتلون عليه. فالعركة على الكعكة تعني العركة على الكرسي. وطالما كان الأمر كذلك فمن المهم للمتعاركين أن يلموا بتاريخه.

إذا كان البرد قد فرض على الأوربيين النشاط والحركة، فإن الحر فرض على العرب السكون وحب الراحة. يفعلون ذلك بالاستلقاء والانبطاح والنوم معظم الأوقات. ولما كانت البادية رملية يابسة فقد وجدوا الاستلقاء والجلوس على الأرض يسيرا وعمليا. فضلا عن ذلك وجدوا أن الهواء البارد يوجد في الأسفل. راحوا ينشرون الحصير والوسائد والسجاد على الأرض ويقضون حياتهم دون حاجة للكراسي. بيد أن انتقالهم للحواضر كشف لهم وساخة أرض المدن ورطوبتها وطينيتها. اقتبسوا الكراسي من الأعاجم والروم. ولكنهم جعلوها تتلاءم مع بداوتهم، أي الاستلقاء والاضطجاع. فضلوا السرير والتخت على الكرسي. وفرشوا عليه الحصير والسجاد والوسائد والفراش. واستلقوا عليه بارتياح. وهو ما نجده في المقاهي القديمة التي تعرف التخوت وليس الكراسي.

ولكن العرب نظرت للتخت كبدعة. وهو ما عبر عنه ذلك الأعرابي الذي ذهب لزيارة معن بن زائدة، فوجده جالسا على تخت وثير فهجاه قائلا:

* أتذكر إذ لحافك جلد شاة - وإذ نعلاك من جلد البعير

* فسبحان الذي أعطاك ملكا - وعلمك الجلوس على السرير

* وعندما يضطجع المرء على السرير يتوجه نظره للسقف. وعندها أبدع المسلمون في تزويق السقوف بالأشكال الهندسية الرائعة كما نجد في ستلكتايتات وستلكمايتات قصر الحمراء وفي بيوتنا القديمة وتجاهلوا الجدران.

بالتقاء الشرق بالغرب اقتبس الأوربيون من العرب حب الراحة كما تجلى في استعمال الوسائد، فأخذوا يضعونها على كراسيهم الخشبية الفظة. ولكنهم استعملوا ذهنيتهم العملية فراحوا يثبتون الوسائد بالمسامير على الخشب. وهكذا ظهر فن التنجيد وسرعان ما أبدعوا في تزويق وتطريز القماش. اعتاد المسلمون على التزويق بالأشكال الهندسية والزخارف التجريدية، ولكن الأوربيين مولعون بالتصوير، فأخذوا ينسجون القماش مزينا بصور البشر. وجدوا هنا صعوبة. فولعهم بتصوير شخصيات الكتاب المقدس لا يتلاءم مع الكنبات والكراسي فليس من التقوى أن يجلس الإنسان على صورة المسيح أو مريم العذراء. استبدلوا بذلك صور آلهة الإغريق، أفروديت وفينوس وأبوللو ونحو ذلك.

ولكن الميل الإنجليزي للديمقراطية واحترام الإنسان منع المصمم البريطاني من وضع صور بشرية على مقعد الكرسي واكتفى بوضعها على الظهر. وجد من غير اللائق أن يجلس إنسان على إنسان. آثر نقش المقعد بالأوراد فكلنا نصبو للجلوس بينها.

وكان اقتباس الكراسي والجلوس عليها من المؤثرات الغربية على حياتنا الاجتماعية بما تضمنته من نشر الروح الفردية. فالتخت اشتراكي يسمح لجلوس أكثر من شخص واحد. والكرسي رأسمالي مخصص لشخص واحد. وهكذا أجد حلول الكراسي محل التخوت من مصائبنا السياسية. فلم نسمع في تاريخنا عن الجري وراء تخت أو التشبث بتخت كما أخذنا نسمع عن الجري وراء الكرسي والتشبث بالكرسي. وسأبقى أتساءل، أيا ترانا سنخفف من مشاكلنا السياسية ومظاهر الفساد لو أننا استبعدنا الكراسي وجعلنا المسؤولين يجلسون ويعملون على الحصران.