اليونسكو: معركة وهمية؟

TT

النظرية هي أنه كلما ازداد حماس العرب لمعركة ما، تأكد أنها معركة وهمية. ومع ذلك أستغرب في «حدوتة» اليونسكو، لماذا يتنافس العرب، وبكل هذه الشراسة، ويحشدون كل رأسمالهم الدبلوماسي والسياسي من أجل تولي إدارة أفقر وكالات الأمم المتحدة؟ اليونسكو ميزانيتها نصف مليار دولار، أي ما يساوى من المال ما يديره رجل أعمال من محدودي الدخل في دولة خليجية أو دولة أوروبية فقيرة، دعك عن ماذا يمكن أن يفعله هذا المبلغ المتواضع جدا لإدارة ثقافة العالم، من المعمار إلى الآثار إلى الكتابة والنشر. هل سمع أي منكم بعمل واحد عاد بالفائدة على العرب من اليونسكو؟ أنا شخصيا لم أسمع.

فاز العرب من قبل بمناصب في الأمم المتحدة أهم بكثير من منصب المدير التنفيذي لليونسكو، فماذا فعلوا؟ لم يقدم من فازوا بمناصب دولية شيئا يذكر للمنطقة التي ينتمون إليها، سواء تعلق الأمر بالأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي، أو بمدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي. إذا كنا نعرف ذلك عمن تقلدا منصبين أهم بكثير من مدير اليونسكو، فلماذا كل هذه المعركة الوهمية؟ ولماذا ضياع كل هذه الطاقات الدبلوماسية التي لو استخدمت وبالقوة والحماس نفسيهما في قضية عربية أساسية، كقضية فلسطين، لتغير الأمر كثيرا؟ وما الذي يدفع وزير ثقافة دولة مهمة كمصر، أن يسعى لتقلد منصب دولي محدود الأهمية مثل منصب المدير التنفيذي لليونسكو، فوزير ثقافة مصر، على الأقل بالنسبة لمصر، أهم بكثير من مدير اليونسكو. هل الهدف هو مجرد وجود مصري على رأس إدارة من إدارات الأمم المتحدة المتعددة؟ لقد كان هناك مصري على رأس الأمم المتحدة في شخص الأمين العام بطرس غالي، وأصبح بعد ذلك أمينا عاما لمنظمة الفرانكوفونية، «وتنه في النازل» حتى أصبح أمينا لمجلس حقوق الإنسان في مصر، ولا أدري، إلى أين سينزل بعد ذلك، إلى منصب عمدة شبرا البلد؟ ولكن تلك حكاية أخرى، تتعلق بهوس جماعتنا بالمناصب «الميري» حتى لو كانت منصب عمدة شبرا البلد. ليس هذا هو المهم، المهم ماذا فعل بطرس غالي المصري لأجل فلسطين وهو في ذاك المنصب الدولي؟ صفر كصفر المونديال. كل ما سيبقى لمصر من مسألة تولي بطرس غالي هذا المنصب، هو أنه عندما تعدد جنسيات الأمناء العامين للأمم المتحدة، سيذكر اسم مصر مقرونا ببطرس غالي. ولكن هل يغير هذا من صورة مصر كثيرا؟ هل منكم من تغيرت لديه صورة غانا لأن السكرتير السابق للأمم المتحدة كوفي أنان كان من غانا؟ لا أظن، ربما هناك العشرات بل المئات ممن لا يعرفون أين تقع غانا أصلا، والبعض قد يرجع لغوغل وهو يقرأ المقال ليتأكد بنفسه، هل كان كوفي أنان من غانا أم من غينيا أم من ساحل العاج. الهدف ليس البحث، ولكن توصيل فكرة مفادها أن المنصب الدولي للشخص لا للبلد الذي ينتمي إليه، ولكن النخب العربية لدينا مريضة بالمنظمات الدولية، وهذا مرض عضال لا شفاء منه.

الذين يعرفون المؤسسات الدولية من الأمم المتحدة إلى البنك الدولي إلى سواهما، يعرفون أنها بمثابة ملجأ للأيتام أو دار لجبر الخواطر، أي أن كل موظف حكومي له دلال في بلده وتنتهي مدته في الحكومة يرسل كممثل لبلاده في واحدة من المؤسسات الدولية هذه. مجرد مكافأة تقاعد للكثيرين، وإن لم تكن واضحة في الأمم المتحدة فهي ساطعة كشمس الظهيرة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في العاصمة الأميركية واشنطن. هذا ما يقوله العقلاء، أما جماعتنا فكما ذكرت، «غلابة» تبهرهم الألقاب الدولية، لذا لا تستغرب إن مشيت في متاهات وحواري شبرا ووجدت لافته كتب عليها المعهد الدولي، والمكتب الدولي، والمخبز الدولي.. لقد دولنا كل شيء.

بخلاف مشروع الأونروا أو وكالة غوث اللاجئين في فلسطين، ترى ما هو دور الأمم المتحدة برمتها في المنطقة العربية؟ هل حلت نزاعا، أو أنقذت بلدا، أو عاونت من لا معين لهم؟ الأمم المتحدة في منطقتنا ومكاتبها الإقليمية التي لا تعد ولا تحصى هي مكاتب توظيف لأيتام الحكومات والدبلوماسيين السابقين وأولادهم وأحفادهم، هي ناد مغلق على أصحابه، شيء أشبه بنادي الجزيرة في القاهرة، فهو «حدوتة» بالنسبة لأهل منطقة الزمالك، أما خارج هذا النطاق فملايين المصريين والعرب لا يعرفون عنه شيئا. وهنا أنقل حديثي إلى الشباب، هل سمع أحدكم بإعلان عن وظيفة في الأمم المتحدة ومكاتبها وتقدم لها وحصل عليها؟ أنا شخصيا، ولمدة ثمانية وأربعين عاما من الحياة على هذه المعمورة، لم أسمع أو أر إعلانا كهذا. فمسألة التعيين في هذه المواقع ما هي إلا نوع من المكافأة بين الأصدقاء من الدبلوماسيين وأقاربهم.. مكافأة لا كفاءة، هذا هو عنوان الأمم المتحدة في المنطقة، وهذه هي اللافتة التي يجب أن تعلق على كل بواباتها. ومن هنا أستغرب لماذا انشغل العرب، وشغلوا الصفحات الأولى والثانية للجرائد، في الحديث عن معركة فاروق حسني للفوز بمنصب في منظمة تابعة للأمم المتحدة؟ إذا كان لا بد من وقت يخصص للحديث عن هذه المنظمة الدولية، فليكن مساحات مفتوحة من مقالات الرأي لنقد حقيقي لملجأ الأيتام الكبير المعروف بالأمم المتحدة، التي تدفع الدول العربية الأموال لها كدول أعضاء من دون أن تستفيد في المقابل.

في مصر وحدها هناك أكثر من خمس وعشرين هيئة تابعة للأمم المتحدة، وكلها «تقدم الدعم لجهود مصر في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من أجل إنجاز الأهداف التنموية للألفية»، هذا ما يقوله مكتب إعلام الأمم المتحدة في القاهرة على صفحاته على الإنترنت. ما هي جهود الدعم التي تقوم بها هذه الهيئات في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مصر؟ هل هناك من سمع بهذه المكاتب وماذا تفعل، أم أنها مكاتب وجدت فقط لتدفع لأناس مرتباتهم بالدولار في آخر الشهر، بينما بقية المصريين يستلمون مرتباتهم بالجنيه المصري الغلبان؟

تدفع الولايات المتحدة الأميركية حوالي خمسة مليارات ونصف المليار سنويا للأمم المتحدة، (حسب الأمم المتحدة ذاتها تدفع الولايات المتحدة 5.327.276.000 دولار)، ولكن أميركا تستفيد من الأمم المتحدة سياسيا بصفتها دولة عضوا في مجلس الأمن، وتطوع الأمم المتحدة والقانون الدولي لاتخاذ إجراءات لصالحها في قضايا الحرب والسلام. الدول العربية لا تدفع هذا القدر كله من المال، ولكنها تدفع مبالغ كبيرة أيضا، والسؤال هنا: ترى لماذا ندفع لعضوية منظمة لا تؤدي أي خدمات في منطقتنا، أم أن الغاية هي أن ننفق المال على دبلوماسيين قرروا التقاعد في مدن الغرب الراقية مثل نيويورك وجنيف وفيينا؟

لكل ما ذكرت، أرجو أن تنتهي الكتابة عن صداع اليونسكو، وعن الأمم المتحدة برمتها، لأننا لا نكتب كلاما جادا، فقط ندخل أهلنا في المنطقة في معارك وهمية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.